يتعرض العالم بأكمله لركود اقتصادي سيؤدي إلى أزمة اقتصادية عالمية، وذلك بسبب تناقضات البنية الاقتصادية الغربية للرأسمالية المتوحشة وخاصة الأمريكية وتداعيات كورونا الذي ساهم بكشف حقيقة هذه الاقتصاديات، وهذه الأزمة هي استمرار للأزمات الرأسمالية السابقة، ولكن ما يميزها أنها شملت كل دول العالم من الصين وروسيا حتى أمريكا والدول المتقدمة والناشئة والنامية، إذا يمكن القول إن العالم يمر بظرف اقتصادي صعب جداً ، والجميع يبحث عن آلية للخروج من هذه الأزمة ولكن كيف؟!، وبرأينا نحتاج إلى رؤية اقتصادية واقعية تعتمد على دراسة الأزمات الاقتصادية السابقة مع مراعاة ظروف الاقتصاد العالمي الحالي الذي تتزعمه أمريكا المثقلة بديونها وبحدود /23/ تريليون دولار بما يعادل أكثر من /104%/ من قيمة ناتجها الإجمالي ، ويترافق مع تراجع إنتاجها المادي وتستورد أكثر من /73%/ من احتياجاتها الاستهلاكية ، ورغم هذا فإنها تدمن الإرهاب الاقتصادي على الدول الأخرى من خلال دولارها فقط ومنظومتها المالية وقوتها العسكرية ، وتسعى لتسخير أغلب دول العالم لخدمة دورتها الاقتصادية الداخلية وخلق بؤر التوتر في العالم لتسويق بيع أسلحتها واصطناع الأوبئة العالمية والاستثمار بها لتحقيق أكبر أرباح ممكنة وخرقها لكل المواثيق الدولية وميثاق الأمم المتحدة ….الخ !، وهنا لا نوجه الاتهامات لأمريكا من باب إيديولوجي أو وطني وإنما نقتدي بعالمنا الكبير البريطاني الأصل ( جون ماينارد كينز ) والذي عايش الحربين العالميتين الأولى والثانية ، حيث بدأت الحرب العالمية الأولى بتاريخ 28/6/1914 واستمرت /4/ أعوام ، وبدأت الحرب العالمية الثانية بتاريخ 1/9/1939 واستمرت /6/ سنوات ، أي إن مدة الحربين أقل من مدة الحرب على سورية !، وعالمنا الكبير (كينز) استخلص العبر الكثيرة من الحربين وهو المولود سنة /1883 / وتوفي سنة /1946/ ويؤكد الكثير من علماء الاقتصاد أنه أنقذ الاقتصاد العالمي مرتين ، ولا سيما بأفكاره المستنتجة من تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية الكبرى التي تفجرت بتاريخ 24/10/1929 واستمرت حتى نهاية ثلاثينيات القرن الماضي والتي انطلقت أيضاً من بيت المال العالمي أي سوق (وول ستريت Wall Street) والتي تأسست سنة /1989/ وكان تأثيرها الاقتصادي في ذاك الوقت شبيهاً إلى حدما بتأثير وباء كورونا حالياً ، وأدت هذه الأزمة إلى دمار غربي شامل وركود اقتصادي وتكديس المنتجات في المستودعات بسبب زيادة العرض عن الطلب وزادت الديون والديون المعدومة والاستثمارات ، وهنا أكد عالمنا الكبير ( كينز ) على فشل السياسات الاقتصادية الغربية المعتمدة على نظريات وفكر ( آدم سميث ) والذي لقب باسم ( نبي الثورة الصناعية ) وأكد كينز على فشل رؤية ( سميث ) المعتمدة بشكل أساسي على نظرية (اليد الخفية ) أي إن الأسواق تنظم نفسها بنفسها من خلال فعالياتها الخاصة بها ، ودعا وهو الذي يقول عن نفسه ( إنه ليبرالي بامتياز ) لكنه دعا إلى ضرورة تدخل الدولة ممثلة بالحكومة وخاصة عن طريق التوجيه والرقابة ، وبأن المهام الملقاة على عاتق الدولة تزداد في أوقات الأزمات ، وأن الأسواق عاجزة عن تنظيم نفسها بنفسها، بل هي بحاجة إلى قوة من خارجها تنظمها ، وأنه لا يمكن ترك الأمور لقوانين العرض والطلب ، ومما سبق يتبيّن لنا كم نحن الآن بأمس الحاجة لإعادة استحضار أفكاره وتطبيقها حالياً ، ومن هنا يعتبر بأنه أول من وضع أسس علم ( الاقتصاد الكلي Macroeconomist) ، علماً أنه انطلق بدراسة ذلك من الواقع الاقتصادي لبلده بريطانيا العظمى خلال الحرب العالمية الأولى ، وكانت بريطانيا في تلك الفترة هي الإمبراطورية العظمى والتي انطلقت منها الثورة الصناعية الأولى وتسيطر على أكثر من /25%/ من مساحة العالم ولكن بنيتها التحتية كانت مدمرة ونسبة ديونها إلى إجمالي ناتجها الإجمالي زادت من نسبة /29%/ قبل الحرب إلى حوالي /240%/ بعد الحرب وزاد بها عدد العاطلين وزاد مستوى الفقر وتراجعت إنتاجيتها وقيمة ناتجها المحلي الإجمالي واحتياطاتها النقدية ….إلخ ، ولم يتوقف الأمر عند بريطانيا بل اضطرت ( ألمانيا ) للوقوع في العجز المالي والاستدانة الكبيرة بسبب فرض عقوبات عليها من قبل دول الحلفاء ولكنها أعفيت منها لاحقاً واضطرت فرنسا لتأميم شركات الفحم ، واعتمد الرئيس الأمريكي ( فرانكلين روزفلت ) خلال الفترة من سنة /1933/ وحتى سنة /1946/ تطبيق سياسة التقشف والعمل الإجباري أو مايدعى سياسة ( العهد الجديد ) ، وهنا ظهر الدور الخبيث للولايات المتحدة الأمريكية باستعمار العالم عن طريق إغراق دول العالم بشكل عام والدول الأوربية وخاصة بريطانيا بالديون لكي تستطيع فرض إرادتها وسيطرتها عن طريق الديون وخاصة أنها كانت تمتلك احتياطيات نقدية كبيرة ،وأمام المشكلات الاقتصادية لبريطانيا تم اختيار (كينز) كمفاوض مع أمريكا وحاول من خلال براعته الاقتصادية ، وخلال المفاوضات تحقيق الأهداف البريطانية بأعلى كفاءة ممكنة ، ومع طرحه لأفكاره والتي لم تعجب المفاوضين الأمريكيين والذين وصفوه بأنه عدواني وفظّ وسليط اللسان ، وبعد نهاية المفاوضات كتب إلى أمه معبراً لها عن غضبه من التصرفات الأمريكية اللاحضارية ، وفي ذاك الوقت انتصرت الثورة البلشفية في روسيا بقيادة ( فلاديمير إيليتش لينين ) وكان كينز يتابعها بأدق تفاصيلها ، وبعث رسالة لوالدته يقول فيها : “إن ما يحدث في روسيا هو النتيجة الوحيدة ذات القيمة للحرب للعالمية الأولى” . وأبدى استياءه من الطريقة التي تتعامل بها حكومته مع الحكومة الروسية الجديدة ، وفي سنة /1919 / ومع عقد مؤتمر باريس لدول الحلفاء والذي نتج عنه ( معاهدة فرساي ) عارض كينز اتفاق دول الحلفاء الذين قرروا فرض عقوبات على ألمانيا ووصف هذه العقوبات بأنها غير أخلاقية وغبية وستؤدي مستقبلاً إلى الأسوأ ، ونتيجة ذلك وقف ضده الكثير من زملائه واعتبروه متعاطفاً مع ألمانيا ، لكن بعد /14/ عاماً ومع ظهور الحزب النازي الألماني بقيادة ( هتلر ) وحزبه النازي عادوا واقتنعوا بأفكاره ، كما استمر ( كينز ) خلال الحرب العالمية الثانية في تقديم رؤى اقتصادية لحل الكثير من المشكلات الناجمة عنها ، وخاصة في كتابه ( النظرية العامة للتشغيل والفائدة والنقود) وفيها ركز على تدخّل الدولة لضبط اقتصاد السوق بالتوجيه والمراقبة، ووضع في سلم الأولويات الوصول للتشغيل الكامل بهدف معدل البطالة وزيادة الاستهلاك المحرض لتفعيل الإنتاج ، ومع تكرار الأزمات الاقتصادية العالمية منذ مطلع القرن العشرين وخاصة /2008 / وأزمة /2020 / عاد الاهتمام للكينزية حتى اضطر كبير الاقتصاديين في (مؤسسة كارنجي مالون) الأمريكية ليقول بأن الحل في التغلب على الأزمة هو تطبيق أفكار كينز وأضاف قائلاً :إن “كينز يتقلّب في قبره بسبب سوء إدارة أوباما للأزمة الاقتصادية” ، فكم نحن بحاجة إلى تقديم رؤى اقتصادية للخروج من الأزمات ورحم الله عالمنا الكبير جون ماينارد كينز.