الرئيسية / آراء اقتصادية / الاقتصاد السوري والأزمة في أوكرانيا: علة الحرب في ظاهرة “الانكشاف الخارجي”

الاقتصاد السوري والأزمة في أوكرانيا: علة الحرب في ظاهرة “الانكشاف الخارجي”

كان لافتاً سرعة تأثر الاقتصاد السوري بالأزمة الأوكرانية، إذ لم تكد تمضي سوى ساعات قليلة على إعلان موسكو بدء قواتها عملية عسكرية خاصة في أوكرانيا، حتى أخذت أسعار السلع والمواد ترتفع تدريجياً في الأسواق السورية، ثم تطوَّر الأمر لاحقاً إلى حدوث نقص في الكميات المطروحة من بعض السلع الرئيسية، ولا سيما الزيوت النباتية.

ورغم أنَّ أصابع الاتهام توجَّهت مباشرة إلى شريحة التجار، والبعض ألقى باللائمة على المؤسّسات الحكومية لضعف قدرتها على ضبط الأسواق والحدّ من ظاهرة الاحتكار، وهذا قد يكون صحيحاً لأسباب عدة، فإنّ الأمر في بعده التحليلي العميق يؤشر إلى حجم الانكشاف الخارجي الذي بات يعانيه الاقتصاد السوري بسبب الحرب وأضرارها الكارثية. وتالياً، إنّ أيّ أزمة دولية أخرى كانت ستترك التأثير نفسه، وإن تباينت النسبة ودرجة التأثر.

في خضم الأزمة الأوكرانية

هناك جانبان أساسيّان يمكن للاقتصاد السوريّ أن يتأثر من خلالهما بالأزمة في أوكرانيا:

الجانب الأوَّل يتعلَّق بحجم المبادلات التجارية بين البلدين، سواء نتيجة الظروف التي تعيشها أوكرانيا في ظل العملية العسكرية الروسية الخاصة، أو بفعل ردّ الفعل الأوكراني على الموقف السوري المؤيد لموسكو.

وتظهر البيانات الرسمية لدمشق أن المستوردات السورية من أوكرانيا لم تتجاوز نسبتها في العام 2019 أكثر من 2.7% من إجمالي مستوردات البلاد، مقابل 2.3% في العام 2018، إذ زادت قيمة المستوردات السورية من حوالى 162 مليون دولار في العام 2018 إلى حوالى 186.8 مليون دولار في العام 2019.

وتكشف تركيبة تلك المستوردات سبب تلك الزيادة في بلد يعاني تبعات تدمير قاعدته الإنتاجية وعقوبات اقتصادية غربية، إذ إنّ البضائع المصنّعة شكلت ما نسبته 49% من إجمالي المستوردات من أوكرانيا في العام 2018، تلتها المواد الخام باستثناء الوقود بنسبة 26.7%، فالأغذية بنسبة 19.8%.

أما الصّادرات السورية إلى أوكرانيا، فهي متدنّية، ولم تشكل سوى ما نسبته 0.14% من إجمالي الصادرات السورية المتجهة إلى دول العالم في العام 2019. وبهذا، فإنّ تأثيرات الأزمة الأوكرانية في العلاقات التجارية بين البلدين ستكون محصورة بالسلع والبضائع المستوردة من قبل دمشق، ومدى قدرة الحكومة السورية على إيجاد بدائل سريعة ومناسبة لاستيراد تلك السلع، والحيلولة تالياً دون حدوث أيّ خلل في الأسواق المحلية.

أما الجانب الثاني، فهو يتمثل بتداعيات الأزمة الأوكرانية على مجمل النشاط الاقتصادي العالمي بخدماته، كعمليات الشحن والتأمين، وسلعه، كأسعار النفط والغاز والمحاصيل الزراعية وغيرها.

وخلال الأيام القليلة التالية للعملية العسكرية الروسية، شهدت أسعار معظم السلع والخدمات على المستوى العالمي ارتفاعات ليس قليلة، ما يعني أنَّ المبادلات التجارية السورية مع جميع دول العالم ستتأثر مستقبلاً أيضاً، لجهة ارتفاع تكاليف الاستيراد والتصدير.

ومع استمرار العقوبات الغربية على دمشق، والتغيرات التي طرأت على تركيبة المستوردات السورية جراء تداعيات الحرب، فإنّ الكلفة ستكون أعلى من مثيلاتها في الدول المجاورة.

تركة الحرب القاسية

إلى الآن، يبدو تأثّر سوريا اقتصادياً بالأزمة في أوكرانيا “قدراً” لا مفر منه، في ضوء تأثر جميع اقتصاديات جميع الدول بتداعيات تلك الأزمة، إلا أن المعضلة السورية تكمن في درجة تأثرها الكبير جراء حالة الانكشاف التي يعيشها الاقتصاد السوري منذ سنوات، والتي تتجلّى ملامحها في النقاط التالية:

– اضطرار البلاد إلى استيراد سلع ومواد أساسية كانت في ما مضى تحقّق فيها اكتفاءً ذاتياً وتصدّر الفائض منها، كالنفط والقمح، فالاحتلال الأميركي لحقول النفط وقيامه بسرقة كمّياتها المنتجة يومياً، ودعمه ميليشيا “قسد” في السيطرة على مناطق واسعة من المنطقة الشرقية، اضطرَّ البلاد إلى استيراد معظم احتياجاتها من النفط والقمح، إذ تتجاوز فاتورة الاستيراد الشهرية للمادتين أكثر من 250 مليون دولار، مشكلةً بذلك الجزء الأكبر من فاتورة الاستيراد.

يأتي ذلك في وقتٍ تعاني البلاد من تراجع كبير في إيراداتها لأسباب داخلية وخارجية، وهو واقع تؤكّده أيضاً البيانات الإحصائيات الرسميّة التي أظهرت أنَّ 11% من مستوردات القطاع الخاص السوري في العام 2020 كانت زراعية، و60% صناعيّة.

إنَّ خطورة مثل هذا الانكشاف أو الاعتماد على الخارج لا تتأتى من قيمة المستوردات فقط، ففي سنوات ما قبل الحرب، تجاوز إجمالي قيمة المستوردات عتبة الـ16 مليار دولار، إنما تتأتى من تركيبة المستوردات التي تجعل الاقتصاد السوري وخزينة الدولة في هذه المرحلة رهينة بالمتغيّرات الداخلية على صعيد سعر الصرف والتضخّم وضعف السياسات الاقتصادية والخارجية، لجهة الأزمات التي تضرب الأسواق العالمية، من أزمة الطاقة إلى أزمة الغذاء المرتقبة.

– اعتماد البلاد على الدعم الاقتصادي الذي يقدّمه الحلفاء لتجاوز الأزمة التي تمر بها، وهو ما يجعل تأثرها بالمتغيرات الخارجية سريعاً وكبيراً ومتوقعاً، ولا سيما المتغيرات التي تكون على صلة مباشرة أو غير مباشرة بالحلفاء والدول الصديقة أو القريبة جغرافياً لدمشق، مثل أزمة العلاقات الأميركية الإيرانية في عهد دونالد ترامب، وما قادت إليه من عقوبات اقتصادية واسعة على طهران، أو الأزمة الاقتصادية اللبنانية، أو الأزمة الروسية الأوكرانية الحالية بأبعادها الغربية.

– ارتفاع قيمة الدّعم الإنسانيّ الوارد إلى البلاد من الخارج، وتحديداً من المنظمات الأممية والدولية. وكما يشير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية في العام 2019، جرى تخصيص ما يقارب 11 مليار دولار لخطّة الاستجابة الإنسانية لسوريا خلال الفترة الممتدة بين العامين 2012 و2019، في حين وصل الدعم الإنساني من خارج هذه الخطة إلى حوالى 29 مليار دولار أميركي للفترة الزمنية ذاتها.

وبحسب تقديرات المركز السوري لبحوث السياسات، فإنَّ الإنفاق الإنساني مثّل حوالى 30% في العام 2018، و22% في العام 2019، من مجمل الناتج المحلي الإجمالي.

وبهذا، إنَّ تأثّر الدّعم الإنساني بالأزمات الدولية السياسية والاقتصادية والعسكرية، من شأن نتائجه أن تنعكس على القطاعات والفئات السورية المستفيدة منه، وتضيف مزيداً من الأعباء على المؤسسات الحكومية المثقلة بتركة الحرب. وتزداد مخاطر ذلك مع احتمال تراجع التمويل الدولي لهذه الخطة لمصلحة عمليات أخرى في بقعة جديدة من العالم.

– ارتفاع معدل الفقر وحالة انعدام الأمن الغذائي خلال العامين الأخيرين إلى مستويات مخيفة. وبحسب آخر التقديرات الرسمية المتعلقة بالأمن الغذائي، فإنَّ نسبة الأسر الآمنة غذائياً في نهاية العام 2020 لم تتجاوز 5.2%، رغم الدعم الذي تقدمه الدولة لأسعار عدد من السلع والخدمات الأساسية، كالمشتقات النفطية والخبز والكهرباء والمياه وغيرها، بل إنَّ نصف الأسر، وفقاً للبيانات السابقة، حصلت على مساعدات إنسانية جاءت نسبتها الكبرى من الهلال الأحمر والجمعيات الأهلية في العام 2020، بعد أن شكَّلت هذه الأسر حوالى ثلثي إجمالي الأسر في العام 2015.

وفي مثل هذه الحالة، تصبح معاناة السوريين مع الأزمات المحلية والخارجية مؤكدة، بغضّ النظر عن درجة صلة البلاد بتلك الأزمات وشدتها. مثلاً، إنَّ ارتفاع أسعار الشحن عالمياً قد لا يكون ملحوظاً بالنسبة إلى دول أخرى، في الوقت الذي تكون آثاره واضحة في معيشة المواطنين في سوريا.

الثروات موجودة.. لكنَّها منهوبة

لا شكَّ في أنَّ هناك دولاً قريبة من الحالة السورية حالياً، بسبب تركيبة اقتصادها وفقرها الإنتاجي بشقيه الصناعي والزراعي، وهي تتعرَّض مع كل هزة اقتصادية إقليمية أو دولية لضغوط اقتصادية داخلية، وتزيد مديونتها الخارجية، وغير ذلك.

لكن سوريا تبدو مختلفة حتى في وضعها الراهن، فهي لا تزال تملك من الثروات والإمكانيات ما يؤهلها لتعاود الاعتماد على قدراتها المحلية وتقلّل ظاهرة الانكشاف الخارجي.

وبناءً عليه، وما لم تتمكَّن من بسط سيطرتها على جميع أراضي البلاد بمواردها وثرواتها واستثمارها تنموياً، بما يعود بالنفع على جميع السوريين، سيبقى اقتصادها مهدداً مع كلِّ أزمة دولية تقع، ومع كلِّ موجة غلاء تضرب أسواق العالم، وإن اختلفت نسبة التأثر بين أزمة وأخرى.

زياد غصن

مقالتي اليوم في موقع الميادين نت

شاهد أيضاً

للعاملين في الدولة وأصحاب المشاريع الصغيرة والمتوسطة.. “العقاري” يُطلق قرضين شخصيين بسقف 10 ملايين و 50 مليون ليرة

دمشق – تشرين: أطلق المصرف العقاري القرض الشخصي للعاملين في الدولة والمتقاعدين وكذلك العسكريون وأصحاب …

Call Now ButtonCall us Now