متابعة ارتفاع الأسعار في سورية، ما عادت بحاجة إلى دوريات تموينية، ولا إلى خبير اقتصادي، أو صحفي متابع، بل إلى عداء مسافات قصيرة حصراً، وذلك لأنه الأقدر على رفع سرعته إلى أقصاها خلال أقصر مدة ممكنة، إذ من الممكن أن يرتفع خلال مغادرتك للسوق، سعر السلعة ذاتها التي سألت عنها عند دخولك إليه، وهذه ليست مبالغة، بل حدثَ أنها ارتفعت وهي بيد المشتري بعد اتصال من موزع الجملة، المبني على اتصال من شهبندر المستوردين.
هذا أمر ما عاد يفاجئ أحداً، خاصة أنه يتعلق بالتجار المتروك لهم الحبل على الغارب، الذين – وبعلم الجميع – يبرمجون تعاملاتهم وحياتهم بالآلة الحاسبة، بعيداً عن أي اعتبارات أخرى مهما كان نوعها.
لكن ماذا عن الحكومة؟ ماذا عن رفع أسعار المحروقات؟ عن رفع أسعار الكثير من السلع الغذائية والخدمات بنشرات تكاد تكون دورية؟ عن رفع تعرفة المواصلات؟ عن قانون البيوع العقارية الذي ضاعف أسعار الإجارات؟ ماذا عن كل ما سبق وغيره الكثير؟ وهي التي تعطي دخلاً، – متوسطه – لا يتجاوز 10 بالمئة من الاحتياج الحقيقي حسب كل من يعرف ألف باء الحياة والأسواق والاقتصاد؟ على ماذا تعتمد ثقتهم بأن الناس لديها المقدرة على متابعة الحياة مهما حدث؟ وكيف يديرون هذا الملف الحساس الذي يلامس كل الناس من دون استثناء؟
الأخطر.. انخفاض الثقة
عضو مجلس الشعب الدكتور صفوان قربي، قارب السؤال وطرح إجابته بشكل أوسع وأشمل، وأكد لـ«الوطن» بداية على البديهية التي يعرفها كل السوريين، والمتعلقة بدقة الظرف الحالي الذي تمر به البلاد، وقال إنه يعلم أن هناك الكثير من الكلام، الحكومة غير قادرة على قوله، لكن هذا لا يمنع أنه بالإمكان القيام بما هو أفضل، وأن يكون هناك إدارة أفضل للموارد المحدودة والشحيحة.
وقال: الحكومة وضعت عنواناً لأدائها في المرحلة السابقة، عنوان أنها لن تتجه إلى زيادات كبيرة في الرواتب كما يقتضي المنطق، وذلك بحجة أن السوق سيمتص هذه السيولة ولن يستفيد منها الموظف الاستفادة الحقيقية المطلوبة، وسيكون الاتجاه نحو تخفيض الأسعار، نظرياً هذا الكلام جميل ومقنع، لكن ما حدث على الأرض هو أن الأسعار حلقت بجنون، ودخل المواطن وقدرته الشرائية انخفضا بشكل كبير، والأهم هو أن هامش الثقة بالإجراءات الحكومية انخفض كثيراً، وهو أمر خطير، لأن الثقة تبنى بشكل تراكمي، وفقدانها يحتاج إلى زمن وجهد كبيرين لترميمه، كذلك انخفض مؤشر الأمل بأن القادم القريب سيكون أفضل، ما أدى إلى ارتفاع معدل اليأس وهبوط في عزيمة العمل، وأصبحت اتجاهات المواطن غير مفيدة وأولها الهجرة. كذلك اتجهت الحكومة بشكل مفرط باتجاه الجباية، فأصدرت حزمة قوانين كبيرة أتت تحت عنوان زيادة الرسوم وهي رسالة سلبية بوقت حساس كنا أحوج ما نكون فيه إلى منطق الرعاية وليس الجباية، مع تخفيف للمنغصات والعراقيل الإدارية، وأن يكون العنوان الاقتصادي الكبير: دع الجميع يعمل في هذه المرحلة، وكثير من القضايا قابلة للتعديل والتصويب لاحقاً.
إجراءات فاقمت المشكلة
ويرى قربي أن المعنيين بالملف الاقتصادي لم يكونوا واقعيين في قراءة واقع السوق والواقع الاقتصادي وكان أداؤهم أداء إدارة اقتصاد وهم، خاصة أن اقتصادنا حالياً معظمه اقتصاد ظل بعيد عن الضبط والتقييم والقراءة، إذ إن الحصار والعقوبات الظالمة غير المسبوقة في الشدة والأدوات التي تمارس على سورية، كانت تحتاج لأن تكون الأبواب مفتوحة أكثر، ليس كذلك فحسب، بل إن الكثير من الإجراءات الاقتصادية، ساهمت كثيراً في تشديد العقوبات بدلاً من فتح ثغرات فيها، فباب الاستيراد مفتوح للجميع نظرياً، لكن عملياً، هناك حصرية غير معلنة في عمليات الاستيراد والتصدير، وهذا خطأ كبير لأننا بحاجة لتنافسية كانت ستكون مفيدة حتماً للمواطن، بدلاً من أن يتم حصر الموضوع بيد أفراد وضعوا لافتات وطنية لأدائهم، فأعطوا الوطن والمواطن بعض الفتات وأخذوا الكثير.
من المستفيد من السورية للتجارة؟
وعن وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك المعني الأكبر بكل ما له علاقة بالأسواق وفلتان الأسعار المخيف، أوضح قربي أنه ورغم أنها جزء من فريق اقتصادي كبير، لكنها الواجهة التي يمكن تحميلها أكثر من غيرها، مضيفاً إن الوزير يملك موهبة التبرير للقرارات المؤلمة وإعطائها مسحة واقعية، ويتقن فن مخاطبة الناس عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لكنه اعتمد في عمله على روافع غير قوية تم تضخيمها، فهامش السورية للتجارة من السوق صغير جداً، وحمّلت ما لا تحتمل في واقع اقتصادي صعب، وكان لا بد من مد اليد أكثر للتجار ليكونوا شركاء في القرار الاقتصادي، بعيداً عن التخوين والوعيد وتحميلهم ما يَحمِلون وما لا يحملون، مع عدم الإنكار بكل تأكيد على جشع الكثير منهم، لكن بالنهاية هناك قوانين سوق، فالاقتصاد ليس صراخاً، ولا هو عصا مراقبي التموين الغليظة والمخترقة عند قسم ليس قليلاً منهم بحجة أعدادهم القليلة التي مهما ازدادت، ومهما ازداد عدد الضبوط التموينية، فلن تحل المشكلة إلا بالواقعية في إدارة الاقتصاد ومشاركة الجميع، طارحاً السؤال التالي: رغم أن صالات السورية للتجارة كثيرة، لكن هل تدير هي كل صالاتها؟ ويجيب: بالتأكيد لا، فالقسم الأكبر منها أعطي لمستثمرين خاصين يستفيدون من لافتة رسمية، أستطيع تأكيد أنهم المستفيد الأكبر منها وليس المواطن.
الوزارة تاجر فاشل
ووصف قربي محاولة وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك لبس ثوب التاجر بالفاشلة، التي لا يمكن عملياً أن تكون ناجحة، لأنها نسيت دورها في حماية المستهلك وتاهت بين العنوانين، ويستدرك قربي ويوضح أنه لا يريد تحميل الوزارة وزر كل ما يحصل، لكنها تُحمّل، لأننا في مرحلة صعبة عالمياً، وهناك ارتفاع كبير في أسعار الغذاء عالمياً وصل إلى نحو 40 بالمئة، مع ارتفاع في أسعار الوقود، وفي حالات كهذه، تتعب الاقتصادات القوية، فما بالك بالاقتصاد المتعب أساساً، اقتصاد مضغوط عليه من كل النواحي، لذا يجب أن نكون واقعيين في قراءة مشاكلنا، وهادئين في البحث عن وسائل لتخفيف الأزمات على أمل أن نخرج منها في مراحل لاحقة.
وختم عضو مجلس الشعب بتأكيد ضرورة توزيع تعب وظلم الحرب بعدالة ما أمكن، وألا يكون فقط من نصيب الفقراء الذين تجاوزت نسبتهم في سورية حسب رأيه 80 بالمئة.
التاجر أولوية
الباحثة الاقتصادية الدكتورة رشا سيروب قالت لـ«الوطن» إنها لا تعتقد أن القرارات الحكومية تستند إلى دراسات وأبحاث، وخير مثال على ذلك برأيها، ما حدث من فوضى عند صدور قرار استبعاد من لا يستحق الدعم، فالحكومة تعتبر التاجر هو الفاعل الاقتصادي الوحيد الذي يجب الاهتمام به، وعلى وجه الخصوص المستورد، فاختارت الطريق الأقصر، لكنه الأكثر كلفة في توفير السلع للمواطنين، إذ لو أنها قدمت دعماً حقيقياً وفعلياً – وليس المقصود بالدعم هنا فقط دعم تكاليف الإنتاج، بل أيضاً بالسياسات والإجراءات – للزراعة والصناعة ورياديي الأعمال الذين يلبون الحاجات المحلية ويبتكرون الحلول، بدلاً من الاتكال على التاجر بذريعة «العقوبات»، فإن مشكلة الأسعار لن نقول إنها ستُحل، لكن كان بالإمكان الحد قدر الإمكان من ارتفاعها وضبط فوضاها.
كارثة انخفاض النمو الطويل
وتؤكد سيروب أن العامل الحاسم الذي أدى إلى ارتفاع الأسعار لا يزال يتم تجاهله إلى حد كبير، وهو أن القدرة الإنتاجية للاقتصاد أصبحت محدودة جداً وتتضاءل مع مرور الزمن، لذلك أصبح الإنفاق يتجاوز الطاقة الإنتاجية، ليس لأن الإنفاق مرتفع للغاية – كما يروّج – بل بسبب وجود نقص في العرض. فمنذ العام 2010 انخفض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي (المعدل حسب التضخم) بنسبة 6. 16 بالمئة بالمتوسط سنوياً خلال السنوات (2010 – 2019) ليصبح 32271 ليرة في العام 2019، وهو أقل مما كان عليه عام 1963 حيث كان 32434 ليرة، ولا يوجد اتجاه اقتصادي أكثر إثارة للقلق من انخفاض طويل الأجل في النمو.
وتظهر مشكلة التضخم أكثر وضوحاً وأثراً – حسب سيروب – في أسعار الأغذية والسلع الحياتية اليومية التي لا يمكن للمواطن أن يتخلى عنها، وهو ما يعرف بـ(السلع العديمة المرونة أو مرونتها ضعيفة)، بمعنى أن الطلب عليها لا يتغير مهما ارتفعت أسعارها، أو قد يتغير، لكن بمعدلات منخفضة نسبياً مقارنة مع ارتفاع الأسعار.
وترى سيروب أنه لم يعد بإمكان إجراءات اقتصادية عفى الدهر عنها أن تسيطر على هيستيريا الأسعار، إذ إن التضخم الحالي يعكس بشكل أساسي الاضطرابات المتأصلة في إخفاق السياسات، فقد خرج التضخم عن السيطرة وارتفع إلى حد مربك، ورغم قصور الجهاز الإنتاجي عن توفير كمية من السلع تلبي الطلب المحلي، ما تزال الإجراءات الاقتصادية والقرارات الإدارية تدور في فلك ترميم النتائج من خلال زيادة الجباية والتهديد بالعقوبات، بدلاًمن وضع حلول لأساس المشكلة التي تتمثل بالطاقة الإنتاجية المنخفضة، والتسعير الإداري الذي ما يزال باعتقاد صناع القرار هو الفيصل في ضبط جموح الأسعار.
إستراتيجية (دبّر راسك)
وتتابع: أمام هذا الواقع، لم تكن الحكومة بعيدة عن تمكين الأفراد من تأمين الأموال اللازمة لهم للإنفاق، حيث اتبعت الحكومة بشكل غير رسمي إستراتيجيتي «الأخ الأكبر» و«غض الطرف»، بمعنى تركت أمور تسيير الأمور الحياتية للمواطنين على المواطنين أنفسهم، فمن يتمكن من دفع مبلغ أكبر للحصول على سلعة أو خدمة فليدفع، إضافة إلى غض النظر عن الموظف الذي يتقاضى «إكرامية»، وعن الموظف الذي يعمل في وظيفة أخرى، وعن انتشار عشوائية اقتصاد الظل الذي يقتات منه معدومو ومحدودو الدخل، وعن السلع المهربة داخل السوق السورية، وغيرها الكثير، لكن مجموع هذه الإستراتيجيات الحكومية، مع سياسات المواطن في الحفاظ على بقائه على قيد الحياة والتي مكنّته من استمرار قدرته على الإنفاق في الأجل القصير، سيكون على حساب كيان الدولة والسلام والأمان الاجتماعي على المدى الطويل.