القرض المصرفي ليس منحة ولا هبة ولا حالة إغاثيّة..بل استثمار لمدخرات مواطنين تتولاه مؤسسات متخصّصة، هي المصارف حكوميّة كانت أم خاصّة..وموجودات المصارف ليست أموالاً عامّة بل خاصّة تعود لمواطنين هم من يشكّل معظم قوام المودعين..بالتالي وجود “فوائض إيداعات في المصارف” و مئات المليارات الجاهزة للإقراض، لا يعني بتاتاً أن الخزينة العامة تكاد تختنق بتلال الأموال، وتبحث عن سبيل لتوزيعها في كلّ اتجاه.
لعلّه استهلال بدهي بما يحمله من معطيات قد يبدو استعراضها مثيراً لدهشة بعض العارفين لحقيقة المنتجات المصرفية وفي مقدّمتها القروض، والمعادلة التقليدية التي تحكم علاقة المصرف بالزبون – المواطن – وبالعكس ..وعلاقة المصارف بالخزينة العامّة.
لكنه سرد ضروري للدخول في الحديث عن إشكالية – نعتقدها ليست بسيطة – تعتري ثقافتنا نحن السوريين في التعاطي مع الشأن المصرفي الذي يبقى بنية فوقيّة رغم الحالة الشعبيّة التي يحظى بها..وتتمثّل في الفهم الخاطئ للقرض المصرفي..فهم مرتبك ربما هو ما رتّب امتدادات ونتائج سلبيّة وصلت إلى صلب الحالة الامتيازيّة التي أنتجت مشكلة القروض المتعثّرة بكل مالها وما عليها من تفاصيل وتبعات.
أموال المواطن لـ “المواطن”
لسنا من مؤيدي النصائح العشر التي تركها أحد رجال الأعمال الأميركان لولده، والتي كانت النصيحة رقم واحد فيها ” إيّاك والاقتراض من المصارف”..لكن علينا الاقتناع بجملة حقائق بالغة الأهمية – كمواطنين- ونحن نتوجه لطلب قرض مصرفي من بنك.
أولها.. أن أموال المصرف ليست أموال حكومية بل هي أموال مواطنين مودعين.
وثانيها.. أن القرض استحقاق وليس منحة..بالتالي عندما يتوجّه أحدهم للمبالغة في أساليب الحصول قرض يعجز عن إدارته واستثماره ثمّ يُعثر..فهذه “سرقة ” غير مباشرة لمواطن آخر أو جملة مواطنين مودعين.
وثالثهاً.. على من يستسهل سرقة المال العام، ويعدّ للعشرة عندما يهم بسرقة المال الخاص، أن يتأكّد أن أموال وموجودات المصارف هي أموال خاصّة وليست أموال عامّة..وهنا تبدو مراجعة الحسابات واجب وضرورة.
بين أموال الحكومة و أموال البنوك
الواقع أنه من المريب أن يربط بعضهم بين موجودات المؤسسات المصرفيّة، والمليارات الجاهزة للإقراض التي يجري الإفصاح عنها بين الحين والآخر، وبين موجودات الخزينة العامّة..وتذهب أذانهم مباشرة إلى ربطٍ خاطئ للمعطيات، ثم المطالبة بزيادة الرواتب والأجور..من الأموال ذاتها المعدّة للإقراض، أي للاستثمار..استثمار أموال مواطنين مودعين يحصلون على فوائد لإيداعاتهم..ربما هو خلطٍ مفتعل وغير بريء يتعمده هواة الصيد في المياه العكرة، ويلعبون على وتر الحاجة الموضوعية لتحسين الأوضاع المعيشية.
رغم أن الحالة الأخيرة – تحسين الدخل – هي استحقاق، لم تتجاهله الدولة يوماً، إلّا أنه يحتاج إلى مصادر تمويل، تبدو شحيحة هذه الأيام على خلفيات الحرب والحصار..لكنها تبقى مطالب محقة لم يخرج مسؤول رسمي ويعلن أنها غير ذلك.
مفارقة أنتجتها الحرب
ثمة مفارقة لا بدّ من رصدها بدقّة، وهي أن الحرب قلّصت الإيرادات التقليدية للاقتصاد السوري، بالتالي أثّرت على المصادر المفترضة لإنجاز الزيادات المناسبة على رواتب و أجور العاملين في الدولة..وبذات الوقت راكمت “تلال الأموال” في المصارف التي كانت ملاذ المواطنين للحفاظ على مدخراتهم وحمايتها، على اعتبار أن الاستثمار في الإيداع أكثر أماناً بكثير من توظيف المدخرات على الأرض، بسبب الظرف الصعب وعدم الاستقرار..
فكانت النتيجة ” شح” موجودات الخزينة العامة، يقابله تخمة في الأموال لدى المصارف..هذه هي المفارقة التي أوحت بعموميتها بـ “بحبوحة” وبيئة جاهزة لزيادة الرواتب..خصوصاً و أن المصارف التي أعلنت عن الأموال الجاهزة للقروض هي المصارف الحكومية بالدرجة الأولى.
لقد اختارت الحكومة أن تُطلق مؤسساتها المصرفية نحو إنعاش سوق الإقراض، لتفعيل الحالة التنموية بكل أبعادها الاقتصادية والاجتماعية..فعبر أموال المصارف والتوظيف الآمن لها يمكن إتاحة فرص عمل جديدة مباشرة وغير مباشرة، وتحسين دخول الراغبين باستثمار حقيقي ولو صغير أو متناه الصغر، فالمبدأ الاقتصادي يؤكّد على ” تعليم الصيد بدلاً من إطعام السمك الجاهز”..لذا كان التوجّه نحو دعم فائدة القروض للراغبين بالإنتاج واستجرار التمويلات المصرفية إلى مطارح الاستثمار المجدي.