منذ سنوات قليلة، صار في سورية نوع جديد من الحكايات، حكايات صارت هي الأكثر تداولاً بين الناس، والأكثر رغبة في سماعها، عن عشرات المليارات من الليرات، عن المشاريع الضخمة لهذا أو ذاك، والمبالغ الخرافية التي تنفق هنا وهناك.
كل ما سبق، بالتأكيد مصدره أعمال معينة تدر كل هذه المبالغ، لكن في الوقت ذاته لا نرى أي انعكاس لها على الوضع الاقتصادي والمعيشي العام، باستثناء العاملين فيها، ما أثار الكثير من التساؤلات بين الناس، ليأتيهم الجواب الذي بات معروفاً عند الجميع: إنه اقتصاد الظل.
لغايات ضريبية
بدايةً وحول حجم هذه الأنشطة التي تندرج تحت ما يسمى باقتصاد الظل، توضّح الباحثة الاقتصادية الدكتورة رشا سيروب في تصريح لـ«الوطن» أنه لا توجد دراسات حول ذلك، وحتى بالنسبة للتقديرات فإن هامش الخطأ فيها كبير لعدة أسباب، أوّلها عدم دقة الرقم الإحصائي للبيانات الرسمية المعلنة، وعدم توافر العديد من الأرقام الإحصائية التي تخدم التقدير، إضافةً إلى صعوبات التقدير الناتجة عن تشابك وتداخل أنشطة القطاع الرسمي مع غير الرسمي، موضحة أن معظم من يعمل في القطاع الرسمي يعمل أيضاً في اقتصاد الظل من أجل تحسين الدخل، كذلك فإن معظم قطاعات الأعمال الرسمية لديها قسم كبير من أنشطتها غير مصرّح بها وتدخل ضمن اقتصاد الظل وذلك لغايات ضريبية، مضيفة: «حتى إن عامليها المسجلين في التأمينات الاجتماعية، فإن الجزء الآخر من راتبهم غير المقيّد في السجلات الرسمية يندرج تحت اقتصاد الظل أيضاً».
وأكملت: «لذلك يوجد العديد من التقديرات المبنية على المشاهدة وليس على أساسٍ علمي، تتفق معظمها رغم اختلافها على أن اقتصاد الظل في سورية في حالة تورّم مزمن ومستمر، وأن القوة العاملة التي تغذيه هي شريحة الشباب، وذلك يعود إلى ارتفاع معدلات البطالة التي تجاوزت 60 بالمئة لدى هذه الفئة، وإذا ما أجرينا مقارنةً بين وسطي دخل الفرد ووسطي الإنفاق يمكن القول إن حجم اقتصاد الظل يتجاوز 100 بالمئة».
الإجراءات المعقّدة سببته أيضاً
وترى سيروب أن أسباب انتشار اقتصاد الظل في سورية كثيرة ولا يمكن حصرها، لكن يمكن ترتيبها وفق الأكثر مساهمة في خلق هذا النشاط المخفي، أهمها الإجراءات المعقدة وغير الواضحة، والتهرب من الواجبات المالية أي ضريبة الدخل، إضافة إلى انخفاض مستوى الدخل مقارنة مع مستوى المعيشة، مشيرة إلى أنه على الرغم من مساهمة اقتصاد الظل في توفير فرص عمل وتحسين مستوى الدخل وحفاظ بعض الأسر على وضعها فوق خط الفقر، وتوفير بعض السلع والخدمات في السوق، غير أنه يبقى حالة غير صحية للاقتصاد والمجتمع على المدى الطويل، حيث إن جميع العاملين فيه يعملون في بيئة عمل لا تتمتع بشروط السلامة الصحيّة والمهنيّة ويفتقدون حقوقهم في الضمان الصحي والتأمينات الاجتماعية.
سبب رئيسي لظهور أمراء الحرب
أما على المستوى الكلي، فتعتبر سيروب أن انتشار هذا القطاع يعني مزيداً من العجز في الموارد العامة للدولة، وهذا ينعكس لاحقاً على جودة الخدمات العامة المقدمة وعلى حُسن رسم السياسات، مبيّنة أن لاقتصاد الظل نوعاً آخر ذا طبيعة إجرامية مؤذية للاقتصاد والمجتمع – مهما أمّن فرص عمل وحسّن من مستوى الدخول – وتزدهر هذه الأنشطة في دول النزاعات والحروب – وهو حال سورية – مثل تجارة السلاح والآثار والتجارة بالأعضاء البشرية والمضاربة على العملة وغيرها، والتي تعتبر من أكثر الأنشطة المدّرة للأرباح، بل كانت السبب الرئيسي لبروز أمراء الحرب، يضاف إليهم تجار الأزمات الذين احتكروا بعض السلع وتاجروا بها (مثل تجار المواد الغذائية)، متابعة: ولا يمكن إغفال دور العقوبات الدولية التي ساهمت في خلق طبقة من الأثرياء الجدد «من دون تاريخ تجاري» عملوا كوسطاء وسماسرة لتأمين بعض السلع الأساسية للالتفاف على العقوبات.
وأكدت الدكتورة سيروب أن اقتصاد الظل ليس بالظاهرة الجديدة في سورية، فهو موجود منذ عقود كنتيجة لسلبيات نموذج التنمية المتبع حينها واليوم أيضاً، إذ كان يتم التركيز على بعض المحافظات ومراكز المدن على حين تُهمَل الأرياف، إضافة إلى مرحلة التحول والانتقال القسري إلى اقتصاد السوق من دون تهيئة أرضية مناسبة له.
غض الطرف أم التصريح عنها؟
ومن ناحية أخرى، ترى سيروب أن واجب الحكومات أن تعمل على ضمان إدماج جميع أنشطة اقتصاد الظل المشروعة قانوناً ضمن الحسابات الرسمية، باعتبار أن العامل المشترك لانتشار هذه الأنشطة هو ضعف الخدمات الحكومية وتردي جودتها مقارنة بالالتزامات المالية الناتجة عن كشف النشاط الاقتصادي، وعدم وجود محفزات حقيقية للإفصاح والكشف عن حقيقة حجم النشاط الاقتصادي المخفي، ولكن لا يجوز بأي حال من الأحوال أن تشرعن الحكومات انتشار هذه الأنشطة بذريعة الحرب وتحسين مستوى المعيشة «لمن يستطع تأمين فرصة له في هذا القطاع»، لأن سياسة غض الطرف تحت ذرائع مختلفة ليست إلا اعترافاً رسمياً بعدم قدرة الحكومة على ضبط النشاط الاقتصادي وتهرب الحكومة من واجباتها تجاه المواطنين.
وتابعت: «وطبعاً لا يعني ذلك إيقاف هذه الأنشطة، بل ضبطها وطرح آليات وأدوات يمكن من خلالها حصرها وإدماجها ضمن دورة الاقتصاد الرسمية، من خلال مرحلة انتقالية يتم فيها التصريح عن الأنشطة الخفية المشروعة قانوناً ولكنها مخفية عن السجلات الحكومية وذلك لأغراض إحصائية فقط، دون تحميلها أي تكلفة ناتجة عن التسجيل والترخيص، وألا يستعمل هذا التصريح لاحقاً لأي غرض كان سواء مالياً أو غيره وذلك لفترة زمنية محددة، ثم تُعامل هذه الأنشطة معاملة الأنشطة النظامية المصرّح عنها».
عقوبات صارمة
وأشارت سيروب إلى أنه يجب على الحكومة أيضاً أن تفرض عقوبات صارمة ورادعة، بحيث تكون نتيجة المفاضلة بين التصريح والإخفاء، هو التصريح بسبب ارتفاع التكلفة والمخاطر التي سيتحملها في حال عدم الكشف عن حقيقة حجم النشاط ومصدر الدخل، وذلك بالتوازي مع رقمنة التعاملات الاقتصادية، التي يمكنها أن تكشف عن العديد من الأنشطة المستورة التي لا يرغب أصحابها بالكشف عنها ولن يكشفوا عنها مهما حصلوا على حوافز.
وفيما يخص أنشطة اقتصاد الظل غير المشروعة قانوناً كالأنشطة الجرمية والتهرب الضريبي والتي لها أباطرتها، ترى سيروب أنه لا يمكن الحد منها دون نظام عقوبات صارم، ونظام قضائي نزيه ومستقل، لأن حجم المداخيل النقدية المتأتية منها أكبر بكثير من تكاليف العقوبات مما يبقيها على استعداد للمخاطرة في هذه الأعمال.
ليس سيئاً بالضرورة
الخبير الاقتصادي الدكتور علي محمد يرى أن اقتصاد الظل ليس بالضرورة أن يكون سيئاً وإنما هو اقتصاد رديف للاقتصاد الرسمي، وخاصة أن البلدان النامية ومن ضمنها سورية يطغى فيها اقتصاد الظل على الاقتصاد الرسمي، حيث إنه يرفد الناتج المحلي بأرقام إنتاج مهمة ويؤمن فرص عمل لا يمكن للاقتصاد الرسمي تأمينها، متابعاً: «ولو استندنا إلى الإحصائيات المتداولة التي تقول إن اقتصاد الظل يسيطر على 60-70 بالمئة من مجمل الاقتصاد الرسمي، فهذا يعني أننا نتحدث عن قطاعات كبيرة جداً تعمل ضمن إطار هذا الاقتصاد بمعزل عن الاقتصاد الرسمي».
أرقام تفصيلية
وبالمقابل يعتبر الدكتور محمد أن لهذا الاقتصاد عيوبه أيضاً فهو موجود بعشوائية مفرطة إذ إن بعض الأنشطة تنتشر بشكل كبير في قطاعات معينة على حساب قطاعات أخرى، باعتبار أنه لا توجد رؤى حكومية معينة لتوزعها، فمن الممكن أن تكون أنشطة هذا الاقتصاد منتشرة بكثرة في القطاعات الخدمية والتجارية في الوقت الذي تعد القطاعات الصناعية والزراعية أهم للاقتصاد السوري في الوقت الحالي، متابعاً: «إضافة إلى ذلك إذا توقفنا عند الإحصائية التي ذكرناها سابقاً، وباعتبار أنه ستتم تغطية نفقات موازنة العام الحالي 2022 عن طريق الإيرادات العامة التي بلغت نحو 9200 مليار ليرة مقسمة إلى 4400 مليار ليرة كإيرادات جارية و 4800 مليار ليرة كإيرادات استثمارية وهي عبارة عن فوائض اقتصادية، وبالقياس في حال اعتبرنا أن 40 بالمئة من الاقتصاد السوري (أي الرسمي) هو الذي يخلق هذه الإيرادات، فهذا يعني أن اقتصاد الظل يحرم الخزينة من إيرادات تقدر بـ13800 مليار ليرة، أما في حال اقتصرنا في الحساب على الإيرادات الجارية فإن اقتصاد الظل يحرم الخزينة من 6600 مليار ليرة».
بيئة استثمارية غير فعالة
وبيّن محمد أن الأسباب لانتشار اقتصاد الظل في سورية بهذا الشكل الكبير متعددة، أولها البيئة الاستثمارية غير الواضحة والفعالة والسياسات الاستثمارية والقرارات الخاصة بها، التي لم يدركها الشارع بشكلها الصحيح ولم يتقبلها، معتبراً أن الجهات الحكومية قد تكون مقصرة في هذا الإطار، مضيفاً: وقد يأتي من يقول إن قانون الاستثمار الذي صدر في عام 1991 كان جيداً فلماذا لم تنضوِ هذه الاستثمارات في ظل الاقتصاد الرسمي؟ كذلك الأمر بالنسبة لقانون الاستثمار الجديد الذي صدر في العام الماضي، والذي كان مريحاً لجميع المؤسسات، معيداً ذلك إلى الثقافة السائدة التي تأصلت بشكل كبير خلال فترة الحرب، فمن لديه مشروع ما أياً كان نوعه أو حجمه سيعتبر أن الانضواء تحت نطاق قانون الاستثمار يعني فرض ضرائب ورسوم لذلك فإن أغلبية أصحاب هذه المشاريع يحبون البقاء في الظل.
وفي سياق متصل، يرى محمد أنه لا يمكن تحديد ماهية الأنشطة التي تنضوي تحت مسمى اقتصاد الظل في سورية لعدم وجود إحصائيات رسمية، معتقداً أنها قد تكون في أغلبها تجارية وخدمية، إضافة إلى بعض المنشآت الصناعية الصغيرة جداً.
الوطن