ناظم عيد – الخبير السوري
لم تبخل سيَر معاودة النهوض بعد الحروب والأزمات في هذا العالم من العِبر، وإن تباينت التجارب وبيئاتها أو اختلفت الخصوصيات والمقوّمات، يبقى استنهاض “القوّة الكامنة” ملمحاً مشتركاً بين الجميع، فتألّق ألمانيا بعد خسارتها الكارثيّة في الحرب العالمية ليست حالة فريدة.. و خروج البرازيل من دوامات الانهيار المحققة ليس طفرة..و تجارب ماليزيا و سنغافورة و كوريا الجنوبية وسواها، كانت سلسلة تكرار لنماذج تبدو مذهلة حقّاً لكنها ليست عصيّة على الفهم، كسّرت ” فوبيا التنمية” و وشت بـ” مفاتيح لغز” لم يعد كذلك أبداً..فعلى اختلاف هذه التجارب بظروفها وحيثيّاتها تبقى “القوّة الكامنة” هي العبرة، ليمسي السرّ في طريقة الاستنهاض واستثمار مطارح ومقوّمات القوّة.
في الحالة السوريّة تتعدد مراكز قوتنا الاقتصاديّة لأننا اقتصاد متنوّع الموارد وغني بمقوّمات معاودة النهوض المفترضة، إلّا أن ثمة حلقة رئيسة، تبدو غير متجانسة نسبياً، ربما لن تسعفنا كفاية في توجّهنا نحو إطلاق ما بحوزتنا من قوى كامنة، وهي قطاع الأعمال الذي يعتريه اختلال هائل في ثقافة الاستثمار على أساس الانتماء..ولعلّها معضلة حقيقيّة تحتاج إلى حلّ..وحلّها شرطاً لازماً للمصافحة الفاعلة مع المستقبل، وفق عبارة الأمل التي اخترناها في تداولاتنا الجديدة ” سورية ما بعد الحرب”.
فالدول التي نهضت من تحت الرماد لم تواجه مشكلة في الجانب المتعلّق بالمسؤوليات الاجتماعية والتنموية لمتموليها ولحائزي الحصص الرأسمالية الأكبر في قوام مجتمعاتها..بل على العكس قرأنا عن حالات لا يمكن ترجمتها إلّا في سياق التكافل البنّاء..وهي مفردة تتكرّر في أدبياتنا الاجتماعية، لكن حضورها على الأرض لا يتعدّى الاستعراض إعلامياً ” وإذلال البشر” بتقديم وجبات الإفطار للصائمين في شهر رمضان، رغم بعض الاستثناءات القليلة التي ندرك أن من الضرورة وضعها بين قوسين..
فإن غضضنا الطرف عن إملاءات الجانب الخيري التي لسنا بواردها الآن، لن يكون من اليسير، بل ممنوع تجاهل، الاستحقاق الأخلاقي والأدبي والاقتصادي والوطني أيضاً، من قائمة المطاليب التي قذفت بها خصوصية الظرف في ملعب رجال البزنس السوري التقليديين ومحدثي الثروة على حدّ سواء.
وقد يكون الإحباط هو الذي حدا بنا للإقلاع عن تداول مصطلح المسؤوليّة الاجتماعيّة لقطاع الأعمال، واستبداله بآخر يندرج في خانة المسؤوليات أيضاً لكن بوجه آخر وهو “المسؤولية التنموية”.
ورغم أن العبارة لا تبدو ذات شعبيّة إلّا أنها إستراتيجيّة لن تستثني من عائداتها غير المباشرة، حتى أولئك البسطاء المنضوين تحت خط الفقر الأدنى في بلدنا، والذين اعتادوا ألّا يستشعرون سوى المخرجات النهائيّة للتنمية عيناً أو نقداً..
إن استعراض ” تكنيك الاستدراك” في تجارب من جرّبوا ونجحوا في محاولات الخروج من الأزمات، تؤكّد على معادلة أساسية طرفاها تشريعات رسميّة ومبادرات رجال أعمال، وهي الشرارة التي تشعل ما يستحق الوصف بـ”الفتيل التنموي” لتفجير الطاقات الخامدة والقوى المحيّدة والمؤجلة عن الفعل الحقيقي..لكن المقلق لدينا أننا أتحنا الأولى ولم نحظى بالثانية، رغم سخاء الإجراءات التي وصلت إلى حدّ إثارة المخاوف من شبح الخصخصة..؟!!
المشكلة حقيقية وليست مجرّد فكرة جذّابة لمقال صحفي..فحصّة البند الاستثماري في قوام الموازنة العامّة لهذا العام الذي شارف على الانتهاء اقتصرت على 15 %، و خطّة الحكومة لـ ” سورية ما بعد الحرب” تركّز بشكل بالغ التفاؤل –على مساهمات قطاع الأعمال – وحسبنا ألا نقع في غواية الوهم هنا – وهذا يعني أن لقطاع الأعمال مهام تنتظره في بلدنا..وربما لا يكفي العدد القليل من رجالات المال الوطنيين، لمواجهة مثل هذا الاستحقاق الصعب، فالدسم السوري بات في الخارج..هناك في مصر والأردن ولبنان وتركيا، عشرات مليارات الدولارات سورية المنشأ، تم “تجنيسها” بهويات جديدة في سرقة موصوفة للموارد السوريّة.
لا نطمح لأن نكون كألمانيا ولا كاليابان ولا ماليزيا، بل حسبنا أن نكون كما تؤهلنا مواردنا – ولدينا الكثير – وأداة الفعل الاقتصادي هنا هي رجل الأعمال، والأهم أولئك الذين قاموا بترحيل الأموال إلى الخارج، فليعيدوها وسيكون البلد بألف خير .