الخبير السوري:
آن الأوان لنجد طريقة ما من شأنها كبح جماح “الاقتصاد المتمرّد” أو ما ننعته تهذيباً باسم الاقتصاد الموازي أو اقتصاد الظل، الذي ينمو جنباً إلى جنب مع الاقتصاد الرسمي، ويكاد يكون مكملاً ومنافساً له، علماً أنه لا يسدد ما يترتب عليه من ضرائب ورسوم، ويعتمد على اللاعلنية في العمل، ولا يمسك دفاتر محاسبية تبين نفقاته وإيراداته، ليكتسب بذلك صفة “اقتصاد موازٍ”.
اليوم و أكثر من أي وقت مضى فإن بعض وزارات الدولة مطالبة اليوم بوضع وسنّ سياسات محكمة من شأنها إدماج الفئات العريضة من المجتمع السوري في الدورة الاقتصادية الاعتيادية، سيما وأن قاسماً مشتركاً يتمثل بتفضيلها الخروج من دائرة التنظيم الرسمي لعدم وجود حوافز كافية تجعلها جزءاً من منظومة الإنتاج..!
ورغم أن أنشطة الاقتصاد الخفي ليست كلها سلبية، حيث إن بعضها سلبي وبعضها الآخر إيجابي، حتى أنه لعب دورا لا بأس به خلال الأزمة التي تمر بها البلاد ، لكن لابد من قوننته عبر تشريعات ضريبية محكمة، ومرونة مناسبة، خاصة بعد ازدياد نسبة مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي من 48% قبل الأزمة إلى 70% خلال سنوات الأزمة، وفق تقديرات رسمية، حيث تستفيد هذه المساهمة من خدمات الموازنة العامة للدولة لكن لا تشارك فيها.
توصيف
على الرغم من أن اقتصاد الظل قد أسهم – إلى حد ما- خلال الأزمة الراهنة في تماسك الاقتصاد الوطني عبر تأمين الكثير من السلع والخدمات لما يمتلكه من مرونة مقارنة بالقطاع الخاص المنظم والقطاع العام، لكن لابد من دمج هذا الاقتصاد في نسيج الاقتصاد الوطني ليشارك في عملية التنمية الاقتصادية كذلك المجتمعية من خلال تسهيل الإجراءات وتقليل الحلقات التنظيمية المطلوبة في عملية دمجه، فهو يتوسع بشكل ملحوظ وبنسبة مرتفعة.
فالسكوت على هذا الاقتصاد الذي يشمل كافة الأنشطة الاقتصادية التي يمارسها الأفراد أو المنشآت ولا يتم إحصاؤها بشكل رسمي ولا تعرف الحكومة قيمتها الفعلية، ولا تدخل في حسابات الدخل القومي ولا تخضع للنظام الضريبي ولا للرسوم ولا للنظام الإداري والتنظيمي، لم يعد مقبولاً لأنه آخذ في الاتساع ويستقطب كثيرين من الشباب الذين لا يجدون فرص عمل.
تختلف أسباب اتساع الاقتصاد غير المنظم وفقاً للسياسات المتبعة والنظام الاقتصادي المُطبق، وفي حالتنا يكاد يكون ضعف معدل النمو الاقتصادي، زيادة نسبة القادمين إلى سوق العمل، التهرب من تسديد الضرائب، والتعقيدات الإدارية وضبابية التعليمات، إضافة إلى ندرة السلع وانتشار السوق السوداء وعدم مرونة وواقعية التشريعات الاقتصادية، وأخيراً التوجه نحو الاعتماد على كثافة رأس المال بدلاً من كثافة اليد العاملة من أبرز أسباب زيادة وانتشار هذا الاقتصاد.
هذه الأسباب وغيرها -الكثير- تدفع العاملين والمنشآت المنضوية تحت لواء هذا القطاع إما هرباً من الإجراءات المعقدة، أو تجنباً للضرائب، الى تفضيل العيش في عوالمها الخاصة بعيداً من أعين الدولة وإجراءاتها غير المبررة في كثير من الأحيان، رغم قناعتهم أن الخدمات التي يتلقونها من الدولة أكبر بكثير من العبء المالي الذي يترتب عليهم لقاء ذلك.
حيطة واحتراز
يتخذ اقتصادنا ” الخفي ” أشكالاً عديدة أخطرها عمليات التصنيع التي تتم بعيداً عن معايير الأمان والجودة وفي أماكن مجهولة على الأغلب.
فقد تُسبب منتجاتها مخاطر كبيرة لمن يستهلكها، خاصة السلع الغذائية المنتشرة على الأرصفة، سواء المنتج محليا منها او المهرب والذي يباع رغم انتهاء فترة صلاحيته.
فمن يتجول في وسط دمشق يرى كيف ينتشر الاقتصاد غير الرسمي ويمتد في الأسواق وعلى الأرصفة، والاثنين معاً كما يفعل أصحاب المحال والمتاجر الذين يفترشون “بسطات” لـ “وشيشتهم” وآخرين حتى يُنفقوا بضاعتهم تهرباً من الضرائب أو التأمينات.
وفي الوقت الذي تشير فيه التقديرات الحكومية في عام 2009 إلى أن مساهمة القطاع غير الرسمي في الاقتصاد السوري يبلغ 63% من حجم الاقتصاد الكلي، فإن المثير للاستغراب أن مساهمة القطاع الخاص في ضريبة المهن – وفق قطع الحسابات لعام 2005 اخترناه كمثال- كانت بحدود 14.5% بينما القطاع العام بحدود 82%، علماً أن الكثير من المهن قد ازدادت وتوسعت أفقياً وعمودياً.
وإزاء تلاشي مفردة الجودة من قاموس هذا القطاع، فإن أنشطته تتوسع إلى الأنشطة غير المشروعة وغير النظيفة والتي تدخل تحت مسمى الاقتصاد الخفي كتجارة المخدرات وتجارة السلع المسروقة والمهربة، والمقامرة وتهريب البشر والرشاوى والاختلاسات، وكافة صور الفساد المالي التي تؤدي إلى كسب المال بطرق غير مشروعة واختفائه من القيود المحاسبية في القطاعين العام والخاص. إضافة إلى المقايضات غير الرسمية وغير المشروعة بالسلع والخدمات والمصالح والمنافع التي تقود إلى الفساد الإداري، وهو ما يستدعي وضع الأنظمة الاقتصادية العادلة والسليمة التي تأخذ بعين الاعتبار المصلحة العامة وحاجات المجتمع الأساسية، لا المصالح الخاصة والربح السريع، ذلك ان استمرار العمل غير الرسمي يبقي أعداداً كبيرة من المواطنين على هامش الدورة الاقتصادية ويحرمهم من ثمار السياسات العامة.
صناعة ظل
لعل من أبرز العقبات التي تعترض انطلاقة الاقتصاد السوري خلال المرحلة المقبلة كي يتمكن من إيجاد موطئ قدم في الأسواق الخارجية، ويعاود نشاطه التصديري من جديد هو انتشار ظاهرة التصدير غير المرئي التي تشكل مشكلة كبيرة للصادرات السورية وتقدير قيمتها وحجمها، فلدينا مثلاً ملايين الدولارات تأتي من تصدير محصول الفستق الحلبي الذي يهرب أو يصدر دون علم الحكومة.
لا بل أن هناك جزءاً مهماً من المناطق السورية تصدر منتجاتها دون رقيب أو حسيب، “ولا أحد يعلم حجم صادرتها، كما يحدث في المناطق الشمالية التي تصدر القمح والفستق الحلبي والحمضيات وغيرها، وكذلك تهريب الأغنام بأعداد وعائدات كبيرة وهائلة”.
لا تستطيع الحكومة إيجاد أرقام دقيقة للصادرات، لأن جزءاً مهماً من الصناعة السورية في الأساس هي صناعة ظل، لأن الأنظمة القديمة كان من الصعب للقطاع الخاص أن يتآلف معها، كذلك جاء تعديل النظام الضريبي متأخراً في 2003.
إعادة هيكلة
تستند الدراسات حول القطاع غير الرسمي عموماً إلى مسوح تنفذها دوائر دراسات وبحث غير رسمية لذلك نجد كثيراً من التباين في التقديرات، لكن تلك التقديرات تتفق على أن هذا القطاع في اتساع، ويستقطب شرائح واسعة من الشباب الذين لا يجدون فرص عمل في القطاع المنظم.
وبدلاً من دفن الرأس في الرمال، يمكن للجهات المعنية البدء في التعامل مع هذا القطاع على أنه قطاع موجود، وله مشاكل ينبغي حلها من خلال التفكير بآليات تساعد العاملين في القطاع على تطوير مهاراتهم وتحسين أدائهم، وأحياناً تأمين بعض الائتمان اللازم كي يتمكن البعض من الخروج من هذا القطاع إلى نظيره الرسمي عن طريق الحوافز الإيجابية التي سيحصل عليها حال قراره تغيير الصيغة القانونية التي يعمل بموجبها. فمعظم الدراسات حول القطاع غير الرسمي تشير إلى معاناة القطاع فيما يخص الحصول على التمويل وإنفاذ القوانين والتشريعات، خاصة الضريبية.
يقتضي هذا إعادة هيكلة المنظومة الضريبية في سورية بالكامل بهدف إحكام السيطرة على الحصيلة بحيث لا يتهرب الكبار ويبقي “الغلابة” فقط هم الذين يتحملون كل الأعباء، لأن الكبار لديهم علاقات ومكاتب استشارية، أما الصغار من أصحاب المهن الحرة وأصحاب المشروعات الصغيرة، فإنهم أكثر حرصاً على أداء ما عليهم من التزامات. مع الإشارة إلى أن الأنظمة الضريبية غير العادلة، في بعض الأحيان تكون سبباً وراء بحث الأفراد والمنشآت عن الحيل والطرق التي تمكنها من التهرب من الضرائب وتزوير الحسابات.
ففي مصر على سبيل المثال، تعمل مصلحة الضرائب بالتعاون مع وزارة المالية على دمج الاقتصاد غير الرسمي في المنظومة الضريبية من خلال تعديل تشريعي يسمح بنظام ضريبي مبسط مرن للمنشآت الصغيرة والمتناهية الصغر، ويختلف في أسسه وفقاً للمحافظة والنشاط.
بحيث يتم فرض ضريبة قطعية على أنشطة معينة في بعض المحافظات، وأخرى تسمح بأسس محاسبية مبسطة لأنشطة بعينها.
التحول أولاً
يتعرض القطاع غير الرسمي إلى مزيد من الضغوط والمشاكل التي تستدعي مقاربات جديدة خلال فترة التحولات الاقتصادية كالتي مررنا بها منذ تبني نموذج اقتصاد السوق الاجتماعي في عام 2005، فالقطاع نظراً إلى طبيعته غير ممثل في مؤسسات القطاع الخاص، ولا صوت له مع أنه يستوعب أكثر من ثلث قوة العمل ويسهم في جانب كبير من الإنتاج.
ولا يوجد ما يمنع الحكومة من تأمين بعض الضمانات خلال مرحلة انتقالية تؤسس لإدماج هذا القطاع ضمن دورة الاقتصاد، فبغير ذلك سيبقى العاملون في القطاع مبعثرين، ويعانون من تدن في الأجور والإنتاجية، وظروف العمل غير اللائقة.
علماً أن عملية التحول إلى القطاع الرسمي تعتمد بالدرجة الأولى على الحوافز المقدمة، فالمنضوون يدرسون جيداً القوانين التي سيلتزمون بها والقوانين التي سيضطرون إلى انتهاكها أثناء ممارسة الأعمال، كما يحسبون أيضاً حجم العائد في كلتا الحالتين وتكلفة عدم التزامهم، رغم أن لكل من القطاعين الرسمي وغير الرسمي تكلفته إلا أن وجود مناخ تنظيمي موات وإمكانيات للنمو سيدفع الغالبية منهم إلى العمل في إطار القطاع الرسمي.
فإذا فاقت مزايا الانضمام للقطاع الرسمي التكلفة ينضم العامل للقطاع الرسمي، وإذا فاقت تكلفة الانضمام للقطاع الرسمي المزايا يظل في القطاع غير الرسمي.
يتطلب التحول على العموم إجراء إصلاحات على جبهات مختلفة لخفض هذه التكلفة، من أبرزها تبسيط إجراءات ممارسة الأعمال، تشجيع المشاركة في سن القوانين، توضيح القوانين والتشريعات وتوفيقها، إضافة الى إصلاح نظم حماية حقوق الملكية، وإصلاح النظم الضريبية، وتوفير المعلومات الأساسية لممارسة الأعمال.
دون هذه الإجراءات سيبقى اقتصاد الظل مصدراً رئيساً لهدر الموارد المادية و البشرية وسوء استغلالها، وهو ما سيؤدي إلى تفاقم معدلات البطالة ولجوء الأفراد إلى ممارسة أنشطة اقتصادية خفية غير سوية.