علي محمود هاشم
مع دفع «الدولرة» و«التذهيب» تحت مظلة قوانين مكافحة الجرائم الجنائية، يرجح ألا تتأخر الأسواق عن الاستجابة إلى مضامين المرسوم الرئاسي رقم (3)، والتي يمكن اختزالها بإعادة الاعتبار للنقد الوطني كعملة سيادية للتعاملات التجارية والتسديد داخل أسواقنا.
بعض البيانات التي نقلت عن الاجتماع الحكومي الطارئ الذي أعقب صدور المرسوم أول أمس، وفي مقدمها تأكيد رئيس مجلس الوزراء أن «80 بالمئة من المحالّ التجارية والشركات تتعامل بالدولار وتتداول به بيعاً وشراء»، تثير رعباً شديداً لمجرد التفكر في الآثار الاجتماعية التي كان لاستمرار هذه الممارسات أن تكرسها عبر التراجع المتواتر في سعر صرف الليرة.
«الدولرة»، ووفق نسبة استحواذها الخطيرة المعلنة على الأسواق، تعد أحد أهم الاختلالات الاقتصادية البنيوية التي يمهد المرسوم الرئاسي الأرضية اللازمة للجمها، ذلك أن اعتماد أي من معادلات القيمة -دون الليرة- في أسواقنا، يدفع قسماً مقابلاً من الكتلة السلعية خارج مظلة الكتلة النقدية المخصصة لتداولها، قبل أن تتكفل معادلة القيمة للتكيف من خلال التوزيع التلقائي لتلك الكتلة النقدية على كتلة أصغر من السلع وفق متوالية تتغذى من تقزّم الدورة النقدية بشكل مطرد، ما يفضي في مجمله إلى تجريف مضاعف لقدرة الليرة الشرائية تارة عبر التضخم التلقائي، وأخرى عبر دعم استجابتها للمضاربة بطريقة بالغة السهولة ما دامت عائمة على سطح الأسواق، وفي النتيجة، فالأمران كلاهما يتحمل قسطاً وافراً من المسؤولية عن (أم المشاكل): الركود.. على هذا المنوال يتضح كيف أطاح تجار «الدولرة» بمصالحهم، وبمصالح المستهلكين، والاقتصاد الوطني، بـ«حجر واحد».
اجتزاء قسم من الكتلة السلعية وتداولها بغير الليرة، يؤهل كتلة الليرة الفائضة للاستخدام ككتلة جاهزة للمضاربة لا تستطيع وسائل التجفيف التقليدية عبر المصارف والأدوات النقدية الأخرى من مواجهتها بنجاعة، نظراً لتغذّيها المستمر من مشيمة «الدولرة» وما يرافقها من تباين متصاعد الحدة لمصلحة الأرباح التجارية.
من الناحية الأخرى، ووفقا لما قاله رئيس مجلس الوزراء، يمكن للمرء أن يتخذ نسب «الدولرة» في معرض تفسير الخلاف الطويل ما بين الحكومة والمستهلكين حول مصطلح (الوهمية) لدى تفسير ارتفاعات الدولار.
فبطريقة متعاكسة، يتمظهر السعر المتراجع لليرة من نافذة الحكومة على أنه (وهم)، قياسا بما تستحوذ عليه من مؤشرات تؤكد التوازن المفترض ما بين الكتلتين النقدية السائلة والسلعية المتداولة، فيما يراه المستهلكون (حقيقة مطلقة) من حيث يقفون على أرض السوق، وتبعا لما يدفعونه من أسعار لسلعهم التي يتداولونها بالليرة التي تنخفض جراء إعادة التصحيح التلقائي الذاتي المستمر لقدرتها الشرائية تبعا للخلل القائم في تداولها كوسيلة للتسديد. في المحصلة، يبدو أن الحكومة والمستهلكين كانا على خطأ وصواب في الآن ذاته لدى تناولهم لـ (الوهمية)، وكل من موقع إطلالته على الأسواق!.
مع ما يكرسه المرسومان الرئاسيان (3) و(4) من ترتيب للبيئة الداخلية عبر جرعة قانونية أكثر صرامة في مواجهة الفلتان النقدي على الصعيدين التجاري والاجتماعي، فإن حصر الفعل الجرمي بالتداول التجاري والتسديد بغير العملية الوطنية، يضفي مزيدا من الأهمية على صياغتهما المرهفة كرسالة واضحة تتجنب الردود الاستثنائية على الحرب الاقتصادية العميقة التي نواجهها، كما يشيع انطباعاً مطمئناً لما يمكن أن تصل إليه القرارات المتعلقة بالاقتصاد الوطني حتى في أقسى الظروف والحالات، ولهذا الأمر دلالات سيادية عدة يؤكد بعضها أننا لن نعود – في أي حال- إلى قوانين الطوارئ الاقتصادية، كما يشي بعضها أننا لن نستبدل نظرتنا إلى الأمام تحت ضغط التوجس المرحلي من التدهور.
اليوم، تم وضع حجر أساس المواجهة لنفوذ المساحة (اللاملموسة) من الحرب الاقتصادية على معيشة السوريين، إلا أن تلك المساحة ليست الحرب كلها، فثمة عشرات الاستحقاقات (الملموسة) التي لم تزل معلقة في رقبة الحكومة التي سيبقى عليها القيام بما لم تقم به رغم مروره المستمر -كشعارات- على مدى أيامها وأشهرها وسنيّها.