خاص – الخبير السوري:
لم تعد مشكلة ارتفاع أسعار سلع ” يوميات ” المستهلك السوري، قضية تنظيمية و إدارية، بل أزمة أخلاقية حقيقية ، وهنا مكمن الخطورة خصوصاً في مجتمع يُقال عنه أنه ” تراحمي”..لكن ما تكشّف هو العكس.
ربما يرى بعضنا أن مثل هذا الطرح لا ينصرف في منعرجات الظرف الراهن..لكنها الحقيقة المرّة، فنحن أمام حالة مقلقة تتعدى حدود السلطة التنفيذية والدولة بقوامها كقانون، إلى بنية المجتمع الذي بات يأكل بعضه بعضاً..؟؟!!
ما زالت الأسعار هي المغرد الدائم خارج أي قانون اقتصادي لعدم قدرة الأخير على التأثير في مجريات سوقنا الاقتصادية، فالإجراءات المتتالية منذ بدايات الأزمة، تعرضت لما يشبه التجويف والإفراغ من المضمون، خصوصاً المتعلقة بتخفيض الأسعار، ونذكر تلك التي طالت الرسوم الجمركية على المواد الغذائية والأساسية (نحو 30 مادة)، لتصل نسبة الرسوم إلى الصفر على بعض هذه المواد، وكذلك تم تخفيض رسم الإنفاق الاستهلاكي، الذي ترافق مع تخفيض أسعار مادة المازوت بنسبة 25%، وما لذلك من منعكسات ايجابية على تخفيض الأسعار، إلا أن الأسعار حافظت على استقرارها، لا بل إنها اتجهت للارتفاع دون مبرر. .فما هي أساليب التدخل الأكثر جدوىً في ظل احتكار غير مخفي لعدد غير قليل من المواد الغذائية وغير الغذائية، وهو ما يجعلها خارج السيطرة؟!.
بنية اقتصادنا المرتبك خلال الحرب، بإجماع العديد من الاقتصاديين، ساعدت على خلق شبكة مستفيدين من كبار التجار والمستوردين، والمرتبطين بفاسدين في القطاع العام، ما جعلهم من المتحكمين بمفاصل فاعلة ، ليكونوا شبكة خفية عصية على كل الإجراءات والقوانين، وهي المعبر عن تحالف قديم لحفنة من الفاسدين في قطاع الدولة وبين بعض أصحاب رؤوس الأموال، وهذا ” التشارك” هو من استطاع شفط الاقتصاد الوطني تاركاً خلفه سلسلة من ارتفاعات الأسعار، وانخفاضاً في القيمة الشرائية للعملة الوطنية، ونسباً غير قليلة من الأسر السورية الفقيرة، فقد أشار مدير سابق لهيئة المنافسة، دون حرج، إلى «أن اقتصادنا كان يحكم بقرارات إدارية في الماضي، والبعض استفادوا من هذه القرارات، وتمكنوا من واقع السوق، ووضعوا آلية (على المستوى الخارجي، أو الداخلي، أو الموظفين، أو العاملين في الدولة، أو المرافئ الحدودية، أو إدارة الجمارك)، وبنوا شبكة علاقات تسهل عليهم ما لا يملكه غيرهم من الراغبين في الدخول في هذا الأمر».. وهذا ما أدى عملياً للوصول إلى حالة من الاحتكار المتجذر لأغلب المواد الأساسية منها والكمالية في السوق من بعض التجار والمستوردين، الذين كدسوا ثرواتهم على حساب الاقتصاد الوطني ..
وهذه الآلية المعقدة من تواؤم المصالح بين شريكين ساعيين إلى منفعة خاصة أحدهما في العام والآخر في الخاص هو الذي جعل، على مرّ سنوات سبقت، من عملية الدخول في منافسة مع هؤلاء من راغبين جدد الكثير من الصعوبة، فقد يلجأ مخبر تمويني – الكلام لمدير المنافسة السابق – لإعاقة صفقة رز لشخص غير معروف مثلاً، وذلك من خلال خلق مئات المشاكل فيها، وقد يقوم المرفأ بإجراءات تعقيد له، وقد توضع بوجهه عراقيل في الرسوم أو عند التخليص الجمركي.
إن انفراد شخص في السوق يجعله متحكماً كلياً أو جزئياً فيه، ولكن وجود عدد كبير من هؤلاء الأشخاص يخلق حالة من المنافسة على المستوى الجزئي في كل مادة، وتعميم هذه الثقافة، يخلق اقتصاداً يتمتع بتنافسية عالية، لكن من الملاحظ أن مستوردي العديد من المواد الغذائية والأساسية، كانوا يعدون على الأصابع لمدة سنوات، وهذا لم يأتِ من فراغ بل إن نص القانون يتيح لشخص واحد (مستورد كان أم تاجراً) أن يسيطر على 30% من حاجة السوق، وهذا يعني أن بإمكان أربعة تجار أو خمسة احتكار السوق على أن يستحوذ كل منهم على 20 – 25% من حاجة السوق.
المشكلة في بنية التشريع إذاً..فهيئة المنافسة ومنع الاحتكار تقر بوجود احتكار القلة، ولكن لا يوجد من التجار من يسيطر على 30% من حاجة السوق، ويمكن أن يكون هناك حالات من “التقطير” للمادة أي طرحها في السوق بالتدريج البطيء، ولكن ليس هناك حالة منع أو حبس للمادة..
وبعضهم لا يستبعد في الوقت عينه وجود اتفاقات على تقاسم السوق بين التجار، والتي من الصعب إثباتها، لأنها تكون ضمنية في أغلب الأحيان، ولكن نتائجها تظهر من خلال واقع السوق..
الفساد كان يأكل 30% من الناتج المحلي الإجمالي- وهذا موثق في العام 2010 مثلاً عندما كان ناتجنا الإجمالي 2700 مليار ليرة – ولكن أكثر حالات الفساد التي نعاني منها هي في مجال العقود، والمناقصات، والمزادات، والتي تشكل 40 – 50% من الفساد الإجمالي، وحالات الفساد التي نعاني منها في مجال استيراد وبيع المواد الأساسية ليست بالقليلة، فزمرة الفاسدين في العقود والمناقصات هم من التجار والموظفين الفاسدين، ويمكن أن يكونوا من صناع القرار في هذا الأمر.
كما أن هناك بعض الامتيازات الممنوحة لبعض الجهات حتى العامة، وهي في الظاهر جهة عامة، ولكن من وراء هذا الامتياز جهة خاصة مستفيدة، مثل مواد الإطفاء التي كانت محصوراً استيرادها بمؤسسة الخزن والتسويق، ولكن في الواقع كان هناك بعض التجار الذين يوقعون عقوداً، ويستوردون هذه المواد، وهذه الآلية أدت – يوماً ما – لتوقف نحو 50 ورشة عن العمل، وطرد عمالها في سبيل خدمة شخص أو شركة ما..
هي سرديات ربما لم تكن ضرورية..فما أوردناه هو معطيات متفرّقة، لكنها ضرورية لنترك لذهن القارئ الاستنتاج والمحاكمة والمقارنة..وبالتأكيد سيستنتج أننا أمام معضلة بنيوية تمتد عميقاً في قوام مجتمعنا وليس مجرّد منظومتنا التنفيذية، فهي تقاليد تجارة وسوق واقتصاد.