في زمن الحروب يتراجع الاعتبار الربحي أمام إلحاح هويّة انتماء رأس المال..والمخالفة ارتكاب و أكثر..
المفاضلة بين مكونات قطاع الأعمال خيار إستراتيجي..ومن عزز صمود الدولة لا كمن انكفأ أو هرب..
ناظم عيد – الخبير السوري:
لن يتمكّن أي متابع لتفاصيل مستجدات المشهد الاقتصادي والنقدي في سورية، مهما بلغ من الحذاقة ودقّة الملاحظة، أن يلتقط أي قرينة على بصمة حقيقية لتدخل إيجابي قامت به شركات بعضها كان مرموقاً قبيل الحرب على سورية، وملأ الدنيا ضجيجاً باستعراضاته المستفزّة.
أموال دولار
فباستثناء قلّة قليلة من رجال الأعمال، نكرر قلّة قليلة، تُرفع لهم القُبّعة احتراماً لسخائهم الوطني، وسنفرد لهم حديثاً خاصّاً في القريب العاجل..باستثناء هؤلاء، لا تبدو سهلة مهمة التحرّي عن تجليات الحضور والدور الاجتماعي لكبرى شركات ورجال قطاع الأعمال المحلي بيننا، في زمن أزمة متعددة الرؤوس والحراب، وحالة مصيرية تؤكد أن المواجهة استحقاق وقرار لم يترك مكاناً في الأفق القريب لمسارات أخرى تندرج تحت عنوان “الخيار”.
ولعله بات من الحكمة الارتياب بوطنية بيوتات مال تعملقت بيننا، لأن ثمة مفارقات تبيح كماً هائلاً من الشكوك بها كمكونات اقتصادية، حصدت “أطناناً” من العائدات في زمن الانفتاح والاستقرار وحققت فورات – حتى التخمة – من الفوائض الرأسمالية، لكنها تسطّر الآن فصول الفشل على “طاولات الاختبار الاجتماعي والوطني”، بعضهم هرب هو و أمواله، وهذه ليست مجرد تُهم، بل حقائق لا نعتقد أن “متوالية الأوجاع” تسمح بالصمت إزاءها.
فقد أتخمتنا القطاعات الاقتصادية الوافدة التي جرى توطينها في السنوات العشر الماضية – ولا سيما شركات التأمين بعد عقود من الحظر والمنع- بوعود وحكايا عن دور اجتماعي تتحضّر له على التوازي مع مقاصدها الاقتصادية، وكاد المتحدّثون باسمها أن يغنّوا عهودهم غناءً لشدة الاستعراض والتنطع في سردها تسويقاً مسبقاً، اكتشفنا أنه لا يشبه إلّا التغرير بمن صدّق وعوّل، لتغيب غياباً تاماً عن المشهد الاجتماعي، كما غابت عن الواجهة الاقتصادية للبلاد ونأت بنفسها بل باتت كمن اتخذ من ضحايا الأزمة “دروعاً بشرية” ومن مرتكزات الاقتصاد الوطني قرابين لإبعاد شياطين الدمار والخراب عنها!.
وبات السؤال واجباً عن عشرات ” شركات النخبة”..في كل القطاعات، خصوصاً وأنه لم يمضِ كثير وقت لننسى خطابات “السخاء المنتظر” التي ملأت الآفاق، وما زالت تردداتها باقيةً في أثيرنا رغم ضجيج الحرب على سورية، فأين أمست هذه “المؤسسات” المكتنزة لأكبر حصّة من حجم الإصدار النقدي السوري الكلي، والتي لا نبالغ إن ادعينا أنها ابتلعت سيولة السوق السورية، وأحدثت خللاً في توزّع الحيازات النقدية عبر تجميعها في قنوات محددة، وحجبها عن ميدان الفعل الاقتصادي الحقيقي، وهذا يعني التأثير المباشر على الميزان التنموي، فكانت عبئاً مضافاً على أوزار الحرب الحاقدة.. أين هي الآن؟ وهل من صوت يمثلها يخرج ليقنعنا بمسوغ تبريري، وسنعده باستعدادنا للاقتناع نحن وكل من يتساءل..بل ولنعتذر عن ” سوء الظن”؟!.
سمعنا عن حروب ودمار حاق بدول عبر التاريخ الحديث، فكان الحامل الاقتصادي البديل للدولة ورعاياها شركات كبرى ورجال أعمال كبار.. إن لم يكن عرفاناً للمطرح الاستثماري و”مصدر الرزق” فليكن سعياً لإعادة إنعاشه وإتاحة فرص الجدوى والنماء مجدداً، وأمثلة مشابهة لا تخلو منها مجتمعاتنا المحلية، حيث يضطلع ميسورو الحال بمهام إنقاذية حقيقية في أوساطهم عندما تعصف بها جائحة ما أو محنة.. فأين ميسورو شركات “التهام الدسم الاقتصادي” في زمن الدّعة والأمان، ولماذا انكفؤوا منذ أن لاحت نذر الحرب على حاضنتهم الدافئة، وإذا أحجموا عن تلبية استحقاقات تندرج في خانة الواجبات، نسأل أليس من حقوق تترتب عليهم تستوجب من أحد ما أو جهةٍ ما المطالبة بها؟!.
وبصراحةٍ أكثر نتساءل وحسبنا أن نحظى بمجيب: هل يسدد هؤلاء استحقاقاتهم الضريبية بلا تلاعب بالميزانيات الختامية وفبركة الأرقام؟، هل سألت الجهات الرقابية عن دورهم في إشعال الطلب على العملات الصعبة وهم “يدولرون” موجوداتهم بدلاً من الليرة السورية؟، هل تأكدنا أن لدى هؤلاء قيم الأموال ذاتها المصرح عنها هنا في خزائن داخل سورية، أم أنه تم ترحيلها خارجاً وتوجيه ضربة قاصمة للاقتصاد والمواطن على حد سواء؟!.
بدأنا بالبحث عن دور اجتماعي نسجله لـ “شركات الانفتاح” في هذا الزمن الصعب والعصيب، ولأننا لم نهتدِ، انتهينا بالمطالبة بدورٍ رقابي عليها، فهناك ما يجب أن تضطلع به وليكن التزاماً، نعتقده غائباً، وإذا كانت القاعدة الاقتصادية تقول: “الغرم بالغنم” نؤكد أن مؤسساتنا العامة لم تكن الغانمة أيام الرخاء، فلمَ عليها أن تكون الغارمة في أتون الأزمة.. لعلنا أبلغنا والعهدة في ذمة أصحاب صلاحيات المساءلة؟!.
لكن لابدّ من رأي نختم به، وهو أن ثمة استحقاق بات لشركات ورجال الأعمال الذين قاموا بدور وطني فعّال خلال سنوات الحرب، ويجب أن يحظوا بميزات تفضيلية في الشراكة والدعم الحكومي..هذا يجب ألا ننساه مع مرور الزمن، فأغلب رجال الأعمال الوطنيين لا يكترثون بتسويق ذاتهم و لا التقاط الصور أمام عدسات كاميرات رصد ” فعل الخير”..بل يفضلون أن تتحدث أعمالهم عنهم، ونحن يجب أن نكون ثاقبي النظر ونحسن اختيار زاوية الوقوف لرؤية المشهد صحيحاً.
هامش1: هناك عدد قليل من رجال الأعمال كانوا جزءاً مهماً من حوامل صمود الاقتصاد السوري وضمان عدم انهياره خلال سنوات الحرب..والجميع يعرفهم ببصماتهم ولهفتهم على سورية والمواطن السوري خلال يوميات الأزمات الخانقة..
هامش2: لعبت بعض المصارف الخاصّة دوراً مهماً في ظروف الحصار..وكان لبعضها دور اجتماعي جيد إضافة إلى دورها الاقتصادي المتخصص..لا سيما بنك سورية الدولي الإسلامي..والمصرف الدولي للتجارة والتمويل.
هامش3: هناك شركات وطنية من القطاع الخاص..قامت بدور بالغ الأهمية..مثل شركة أجنحة الشام للطيران..التي كانت الشريان الأهم للإبقاء على الاقتصاد السوري نابضاً، في زمن الحصار المطبق الذي جرى على مؤسسة الطيران العربية السورية.
هامش4: هناك شركات في قطاع الأعمال كانت حاملاً اقتصادياً وليست عبئاً..لكنها ليست كثيرة ..كما أنها لا تخفي نفسها ” في كل قطاع شركة أو شركتان” وهذا غير كافٍ.