التفاوت الصارخ في الدخول والثروات يتناسب عادةً مع درجة التقدم الاقتصادي، فكلما تطور الاقتصاد كلما توفرت الفرصة لأقلية صغيرة الاستيلاء على حصيلة النمو وهذه مقولة قابلة للنقاش.
وهناك مقولة أخرى مثيرة للجدل تشير إلى أن الأغنياء يدفعون ضرائب أكثر والفقراء يستفيدون من خدمات الدولة المجانية في الصحة والتعلم، ولكن العائد على رأس المال المستثمر يزيد عن معدل النمو الاقتصادي العام مما يعني أن الفجوة بين من يستمدون دخولهم من قوة عملهم، ومن يستمدون دخولهم من عوائد استثماراتهم ستظل في حالة اتساع.
بعد هذه المقدمة يمكن التأكيد أن جميع برامج التنمية تحاول ان تردم الفجوة بين الأغنياء والفقراء وتساهم في زيادة نسبة الطبقة الوسطى في المجتمع التي تعتبر الحامل الأساسي للتنمية ومرتكز الأمان الاجتماعي، ومن خلال جميع السياسات الاقتصادية تحاول الحكومات تحقيق درجات أكبر في عدالة توزيع الناتج المحلي الإجمالي.
الدراسات والأبحاث كثيرة في هذا المجال وأهمها ما قام به من فاز لعام 2019 بجائزة نوبل في الاقتصاد حول موضوع (تحسين القدرة على مكافحة الفقر) حيث وضعوا نهجاً جديداً للحصول على إجابات يُعتد بها بشأن أفضل السبل لمكافحة الفقر على مستوى العالم، وباختصار يقوم النهج على تقسيم هذه المشكلة إلى مسائل أصغر وأكثر قابلية للإدارة، مثل التدخلات الأكثر فعالية لتحسين النتائج التعليمية أو صحة الطفل، وقد أظهروا أن هذه المسائل الأصغر والأكثر دقة غالباً ما تكون هي الإجابات الأفضل لها عبر اختبارات مصممة بعناية تُجرى على الناس الأكثر تأثراً.
إن الفكرة التي يطرحها الاقتصاديون المتخصصون في التنمية الجديدة هي ان طرح الأسئلة الكبرى (مثلاً عما إذا كانت المساعدة الخارجية مفيدة) أقل أهمية من الأسئلة ذات النطاق الأصغر المتعلقة بتحديد ما هي مشاريع التنمية التي يجب تمويلها وكيف يجب ان تنظم، ولهذا الغرض يقترحون اختبارات ميدانية وأخرى عشوائية- لتصميم مشاريع تنمية تعطي الناس دفعة عبر حوافز مناسبة للانتقال إلى أنواع سلوكيات ونتائج مفترضة في النظرية الاقتصادية السائدة. ولكن أفضل ما يمكن أن يقدمه علماء الاتجاه السائد في الاقتصاد هو خليط من البيانات الضخمة والتجارب الميدانية والاختبارات العشوائية. كيف يكون ذلك رداً مناسباً على مستويات التفاوت الاقتصادي المرتفعة وعلى العمالة غير المستقرة لمئات الملايين من العمال الجدد والقدامى (وهو ما أظهرته أيضاً منظمة العمل الدولية) وعلى تناقص حصة الأجور في العديد من البلدان مع اضطرار معظم سكان العالم إلى منح قدرتهم على العمل لمجموعة صغيرة نسبياً من أرباب العمل مقابل أجور راكدة، ولكن الاقتصاديون ينظرون إلى المشكلة الاقتصادية (مشكلة التراكم الهائل للسلع من قبل الأفراد والدول) كظاهرة عابرة للتاريخ وللثقافات ويكمن دورهم في اطلاع صناع السياسة والفقراء والعمال على المشاريع التي ستحقق الأهداف المحددة والمشاريع التي ستفشل في ذلك، أما الفاعلون الاقتصاديون أصحاب النظرية والسياسة الاقتصادية فيعتبرون صناع القرار عقلانيين يحاولون (من خلال قراراتهم المتعلقة بالادخار والإنفاق ومشاركتهم في أسواق العمل وغير ذلك) الحصول على أكبر عدد ممكن من السلع والخدمات.
الأهم من ذلك أن الجميع مازال يجهد لحل معضلة الفقر ومن خلال النظريات المختلفة والمتنافسة التي تشكل ساحة الخطاب الاقتصادي.
وضمن هذا التعثر الذي يبدو متبايناً بين الدول في محاولة القضاء على الفقر وردم الفجوة بين أصحاب الدخول المرتفعة وأصحاب الدخول المنخفضة تبرز محاولات الاقتصاد الإسلامي عبر استخدام أدوات التمكين المالي والاقتصادي الذي تمثلها الزكاة والصدقات والهبات والإعانات التي تستهدف إيصال اموال الأغنياء إلى الفقراء المستحقين ولكن ليس فقط للإستهلاك وتأمين الغذاء والدواء والملبس بل لمساعدتهم على (التعفف) وعلى مبدأ (إذا أعطيتم فأغنوا) أي تحويل الفقير المستهلك إلى فقير منتج ومن ثم إلى متوسط الحال صاحب مهنة أو مشروع صغير يتحول لاحقاً إلى قادر على تقديم الزكاة والصدقة بعدما كان يستحقها سابقاً.
إنه فكر جديد ومتطور يعتمد مبدأ (العطاء من أجل التنمية) وليس العطاء من أجل العطاء وذلك تفعيلاً لمقاصد الشريعة ومكامن الزكاة واهداف الصدقة في بناء مجتمع أكثر توازناً وأقل فوارقاً وأكبر تماسكاً وأغزر إنتاجاً وإيجابية.
إن تمكين الفقير وتمليكه مفاتيح مشروع صغير سيساهم في تحقيق ما فشلت به العديد من المحاولات الاقتصادية على مستوى العالم.
واليوم يبدو هذا الحديث اكثر جدارة بالتحقق على مستوى المجتمع السوري بعد أزمة قاسية طالت الجميع وضاعفت مستويات الفقر بشكل غير مسبوق وأطاحت بالطبقة الوسطى حامي المجتمع وضامن استقرارها.
وتبرز مبادرة (نحسبهم أغنياء) التي أخذت عنوان حديث اربعائنا الأول في شهر رمضان المبارك والتي قامت بها جمعية الفتح الإسلامي مشكورة بإيصال أموال الزكاة والصدقات والتبرعات لمن (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف) كونهم يجاهدون لكي يبقوا في مرتبة ومظهر يتماشى من عملهم ومكانتهم العلمية والفكرية والمجتمعية ولكنهم وبفعل تراجع الدخل والقيمة الشرائية للعملة وأزمة وباء كورونا المستجد إلى تصنيفهم (كفقراء في المال أغنياء بالتعفف) أنها محاولات جديدة ومهمة. وتندرج ضمن شبكة الأمان الاجتماعي والاقتصادي التي يحتاجها بلدنا اليوم أكثر من أي وقت مضى .
آمل أن يُكتب لهذه المبادرة النجاح في وقت هو الأصعب على الجميع.
كتبه د. عامر خربوطلي
العيادة الاقتصادية السورية
دمشق في 29/4/2020.