لا يختلف اثنان بأن الحديث عن الدخل والإنفاق يستحوذ المساحة الأكبر من حديث الشارع السوري بمختلف شرائحه الاجتماعية، والأهم هو مصادر الدخل والإنفاق في ضوء التدهور المستمر للأوضاع الاقتصادية والمعيشية.
الإعلامي في الشأن الاقتصادي زياد غصن طرح العديد من التساؤلات موضحاً بالأرقام الفجوة الهائلة بين الدخل والإنفاق خلال المحاضرة التي ألقاها يوم أمس في المركز الثقافي في أبو رمانة بعنوان «مصادر الدخل والإنفاق في سورية».
غصن استعرض بداية واقع وحال الأسر السورية التي استنزف الكثير منهم مدخراتهم خلال سنوات الحرب، وهذا ما يجعلها في مواجهة تحديات خطيرة في مواجهة المستويات المعيشية….الشكوك التي يطرحها البعض حيال التقديرات الإحصائية المتعلقة بالمؤشرات الخاصة بالفقر والأمن الغذائي هي شكوك تستند في ظاهرها على حالات لا يجري قياسها بناء على معايير علمية..فمثلاً هناك من يسأل كيف يكون معدل الفقر 90 بالمئة والمطاعم والمولات ممتلئة بالزبائن؟ كيف يكون هناك فقر وجوع وفواتير خليوي البلاد تكاد تصل إلى400 مليار ليرة؟ إضافة إلى بدء موجة جديدة من هجرة السوريين نحو الخارج، خاصة من أصحاب الكفاءات والكوادر، واللافت دخول دول في قائمة الدول المستهدفة بالهجرة لم تكن سابقاً في ميزان اهتمام السوريين (الصومال-السودان- ليبيا-أرمينيا…).
غصن أكد أنه وعلى الرغم من كل هذه الظروف المعيشية الصعبة قامت الحكومة باستبعاد نحو 598 ألف أسرة من خانة الدعم بحجة أنها ميسورة والانتقادات الموجهة لمعايير الانتقاء القائمة على بند الملكية وليس بناء على الدخل علماً أن الحكومة لم تبادر طوال السنوات الماضية إلى إجراء مسح علمي لدخل ونفقات الأسرة والمتغيرات، التي طرأت على الأوضاع المعيشية للأسرة ورسم السياسات التي من شأنها دعم الوضع المعيشي للسوريين.
وعرج الإعلامي غصن على حقيقية الحالة المعيشية للأسر السورية في ظل الأوضاع الاقتصادية، التي تراجعت بشكل هائل خلال العامين الأخيرين، ومحاولات الإنكار غير البريئة لمعدلات الفقر المرتفعة، فقبل الحرب أظهرت نتائج مسح دخل ونفقات الأسرة لعام 2009، الذي أجراه المكتب المركزي للإحصاء أن مصدر الدخل الأساسي للأسرة السورية موزع إلى 51.17 بالمئة من الأسر دخلها من الأجر الأساسي/ الراتب الكلي، و24.3 بالمئة دخلها من عمليات منشأة الأسرة، و4.6 بالمئة للدخل من معاشات تقاعدية سنوية، و3.2 بالمئة تحويلات وهدايا نقدية من أفراد أو أسر خارج سورية، 3 بالمئة تحويلات وهدايا نقدية من أفراد أو أسر داخل سورية، و2.12 بالمئة بيع ممتلكات، و2.61 بالمئة سحب مدخرات، و1.43 بالمئة دخول من ممتلكات عقارية (إيجار وغيره)، و1.15 بالمئة سحب قروض، و1.45 بالمئة دخول من ممتلكات عقارية وغيره.
ويوضح غصن أن متوسط إنفاق الأسرة السورية 30826 منها 45.6 بالمئة على الغذاء و54.4 بالمئة تنفقها الأسرة على الاحتياجات الأخرى.
أما في زمن الحرب فقد شهدت مصادر الدخل للأسر خلال سنوات الحرب تغييرات كثيرة وذلك نتيجة فقدان ملايين العاملين فرص عملهم نتيجة تداعيات الحرب الاقتصادية (معدل البطالة وصل إلى أكثر 56 بالمئة في فترة ما من الحرب)، وهذا ترك تأثيره المباشر على مصادر دخل أسر هؤلاء العاملين ومستوى إنفاقهم وأولوياته.وحسب مسح السكان لعام 2014 فإن نحو 8.3 بالمئة هي نسبة من لم يفقد عمله خلال الحرب، إضافة لفقدان آلاف الأسر لمنشآتهم الصناعية والتجارية الحرفية التي كانت تمثل لها سابقاً مصدر الدخل الرئيسي.ونزوح ما يزيد على 6 ملايين شخص داخلياً، ومحدودية عدد العائدين إلى مدنهم وقراهم، ومن الطبيعي في مثل هذه الحالة أن تشهد مصادر دخل الأسر النازحة ومستويات إنفاقها تغييرات بحكم الأوضاع الجديدة.وهجرة ملايين السوريين إلى الخارج، وقيامهم بإرسال مساعدات مالية لأسرهم في سورية.إضافة إلى انخفاض سعر صرف العملة الوطنية وارتفاع معدل التضخم لمستويات غير مسبوقة، وغير ذلك من التطورات الاقتصادية، التي شهدتها البلاد ولا تزال.حيث أسهم تراجع الأوضاع الاقتصادية في إحداث تغييرات كثيرة على مستوى إنفاق الأسر. وأشار إلى أنه وللأسف ليست هناك بيانات إحصائية موثقة يمكن الاستناد إليها للوقوف على تركيبة مصادر الدخل للأسر السورية، إذ لم يجر المكتب المركزي للإحصاء أي مسح جديد لدخل ونفقات الأسرة منذ عام2009 رغم أهميته، خاصة في مشروع الحكومة المتعلق برفع الدعم. إنما يمكن الاستعانة ببعض البيانات، التي وردت في المسح الديموغرافي لعام 2017-2018، ومسح الأمن الغذائي الذي تم أربع مرات خلال الفترة الممتدة من عام 2015 ولغاية عام 2020، ومن دون فائدة تذكر لنتائجه، التي بقيت حبيسة أدراج الحكومة ففي المسح الديموغرافي نجد أن 58.7 بالمئة من الإنفاق على الغذاء للأسر 41.3 بالمئة على السلع والمواد غير الغذائية وفي مسح الأمن الغذائي الذي جرى بنهاية عام 2020 أشارت بياناته إلى أن 37.3 بالمئة من الأسر المعيشية تعتمد في إنفاقها على مصدر دخل واحد.وقد سجلت محافظات الحسكة، حلب، دير الزور، ودمشق أعلى نسب في عدد الأسر، التي تعتمد في إنفاقها على مصدر دخل وحيد، حيث بلغت تلك النسب على التوالي 56 بالمئة، 54 بالمئة، 45 بالمئة، و49 بالمئة من إجمالي عدد الأسر في كل محافظة 43.9 بالمئة من الأسر تعتاش على مصدرين للدخل. وقد كانت أعلى نسبة لها في محافظات: حماة 51.9 بالمئة، اللاذقية 49 بالمئة، وريف دمشق 47.9 بالمئة، 18.9 بالمئة من الأسر لديها ثلاثة مصادر للدخل وأكثر. وقد جاءت حماة في صدارة قائمة المحافظات في الأسر التي تعتاش على ثلاثة مصادر، حيث بلغت النسبة فيها 31 بالمئة، ثم جاءت محافظات حمص بحوالي 29.4 بالمئة، السويداء 28.9 بالمئة، واللاذقية 25.6 بالمئة.
ويرى غضن أن هناك أكثر من 2.4 مليون شخص يعملون بأجر لدى الحكومة أو القطاع الخاص من إجمالي عدد المشتغلين البالغ نحو 3.7 ملايين شخص ما يجعل الأسرة السورية تعتمد أساساً في دخلها على الرواتب والمعاشات التقاعدية، حيث «يعتبر الدخل الذي تكسبه الأسرة الأساس الجوهري في تأمين أبسط متطلبات شروط الحياة الكريمة.
خلط واضح..!
غصن رأى أن ثمة خلطاً كبيراً بين الدخل والملكية، سواء على المستوى الشعبي أم الرسمي، وهذا الخلط ظهر بوضوح أثناء تحديد الحكومة للأسر المقترح استبعادها من خانة الدعم الحكومي، إذ اعتمدت الحكومة على الملكية من دون البحث في مصادر دخل الأسرة ومستواه. فامتلاك الأسرة لسيارة أو منزل لا يعني أن لديها دخلاً مناسباً يمكنها من تلبية احتياجاتها اليومية أو تحمل رفع الدعم عن سلع أساسية كالخبز. وربما هذا يتجسد أكثر في حالة كبار السن، الذين قد يكون لديهم ملكية معينة لكنهم يعيشون على المعاشات التقاعدية ومساعدة الأبناء والأهل، وهؤلاء لا يحتاجون فقط إلى غذاء مناسب وإنما إلى علاج مستمر أيضاً. وحسب تقديرات الباحثين فإن أكثر من 90 بالمئة يعانون من فقر الدخل… إذاً هناك ضرورة للتفريق بين فقر الدخل وفقر الملكية، وهناك نوع ثالث يسمى فقر التصرف وهو عدم قدرة الأسرة أو الفرد على التصرف بالدخل بما يؤمن الاحتياجات الأساسية وإدارة ذلك الدخل.
وتساءل غصن كيف أثرت هذه المصادر في الأمن الغذائي للأسر السورية؟ مشيراً إلى أنه ووفق بيانات مسح الأمن الغذائي لعام 2020 يمكن استنتاج أن أعلى نسبة للأسر الآمنة غذائياً كانت لدى تلك التي تعتمد على الإيجارات كمصدر لمعيشتها نحو 13.5 بالمئة تليها الأسر التي تعتمد على الخدمات المقدمة للغير، حيث بلغت نسبة الآمنين غذائياً لديها نحو 11.5 بالمئة ثم إنتاج المحاصيل وتجارة بسيطة ومحدودة بنسبة 9.7 بالمئة، والمعتمدين على الحوالات القادمة من الخارج 7.7 بالمئة. وتنعدم نسبة الأسر الآمنة غذائياً لدى تلك الأسر التي تعتمد على الاستدانة أو اقتراض المال للإنفاق على الغذاء، وتلك التي تعتمد على بيع الأصول في الإنفاق على غذائها.كما بلغت أعلى نسبة للأسر الشديدة انعدام الأمن الغذائي لدى الأسر التي تعتمد على بيع المساعدات الغذائية بنسبة 40 بالمئة تليها الأسر التي تعتمد على بيع الأصول بنسبة نحو 23.1 بالمئة.
وأشار غصن إلى ارتفاع مؤشري فجوة الفقر وشدته خلال سنوات الحرب، وتحديداً الأخيرة منها.وحسب تقديرات الباحثين فإن فجوة الفقر (أو عمقه) بلغت ذروتها (عادة يقاس المؤشر بين صفر وواحد) وسابقاً كان الفقر في سورية غير عميق، وآنذاك كان من شأن أي برامج ومشروعات تنموية أن تحدث فرقاً في واقع الفقر وانتشاره، وانتشال أسر كثيرة من دائرة الفقر، لكن خلال الحرب زاد عمق الفقر إلى أعلى مستوى، وهو اليوم بات بحاجة إلى معجزة تنموية.
وكذلك الأمر بالنسبة لشدة الفقر أو تفاوته بين الفقراء، وهذا كان سابقاً ليس كبيراً، وهو اليوم أيضاً ليس كبيراً، لأن الفقراء هم في مستوى واحد في الفقر العميق.
ويرى غضن أن هناك تغييرات كبيرة حصلت على مصادر دخل الأسرة بين سنوات ما قبل الحرب وخلالها وهذا يلاحظ بوضوح في مصدر الرواتب، الاستدانة، التحويلات الخارجية…إلخ وأن استمرار تصدر الأجر قائمة مصادر الدخل للأسر، ولو بنسبة أقل من السابق، يفرض قيام الحكومة باعتماد برنامج وطني لمراجعة واقع الأجور في القطاعين العام والخاص لتكون متناسبة مع متوسط الإنفاق المطلوب، وضرورة تسهيل إجراءات التحويل من الخارج إلى الداخل على اعتبار أن التحويلات المالية الخارجية تسند نسبة ليست بالقليلة من الأسر السورية، سواء كمصدر دخل أساسي أم دخل ثان، لكن هذا يطرح استنتاجاً آخر لا يقل أهمية وخطورة، فزيادة الاعتماد على التحويلات الخارجية تعني أن الإنتاج المحلي ليس كافياً، وتالياً تزداد الحاجة لدخول من خارج البلاد.. لذلك لابد من الإسراع في بناء شبكة حماية اجتماعية لإنقاذ آلاف الأسر من براثن الفقر والجوع وخسارة الممتلكات، واعتماد مصادر الدخل في أي مشروع حكومي متعلق بإعادة هيكلة الدعم الاجتماعي، والأهم ضرورة العمل على برامج تنفيذية لتنمية مصادر الدخل للفرد والأسرة، والتركيز على المشروعات الصغيرة والمتوسطة لتحسين إنتاجية الأسرة وزيادة قيمة الدخل.