الدكتور خلف المفتاح
بشر منظرو ما سمي بالنظام الدولي الجديد بعد سقوط التجربة الاشتراكية بعالم تسوده علاقات دولية بعيداً عن الحروب والصراعات والتوترات، عالم قائم على التعاون والتفاعل والشراكة في المغنم والمغرم وبما يخدم مصالح الجميع، عناوينه الديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية والتعاون الدولي لجهة إسعاد البشرية إلى درجة الحديث عن المناخ والحفاظ على عالم وبيئة نظيفة واستبشر الكثيرون في العالم خيراً وتفاعلوا مع تلك العناوين التي سرعان ما تكشف كذبها وخداعها وزيفها وتضليليها وأنها كثيرة الشبه بالدعاية التي تسبق سلعة استهلاكية يكتشف مستهلكها أنها قديمة في غلاف جديد.
إن ما شهده العالم في ظل القيادة الأميركية للمشهد الدولي بعيد نهاية فترة الحرب الباردة وحتى الأن يؤكد حقيقة أن ثمة سعياً واضحاً لتسليع العلاقات الدولية وفرض دكتاتورية السوق وسطوة المال عبر عناصر بنائها الثقافي حيث لا تعدو كونها ليبرالية جديدة ويميناً محافظاً متطرفاً يريد تقديم مسوقاته الفكرية والفلسفية في إطار اقتصادي وسياسي جديد وتعلن انتصار المادة على الفكر ولعل أبرز تجلياتها خطاب الإدارة الأميركية ولسان حالها الرئيس دونالد ترامب الذي يريد أن يجعل من الدولار الأميركي سلاح هيمنة وضغط وابتزاز للعالم وهذا يدخل في سياق عام بدأ يفرض أدواته وثقافته على شعوب العالم.
إن التعامل مع الإنسان بوصفه مستهلكاً يعيش ويتفاعل فقط في بيئة مادية اقتصادية استهلاكية هدفها إسعاد نفسه فقط أو توفير المستوى الاقتصادي الملائم له بغض النظر عن الطريقة أو الأسلوب الذي يحقق فيها، ذلك يجعلنا أمام حالة توحش بشري خال من كل القيم الإنسانية والتي سعت كل الفلسفات والديانات عبر التاريخ لتكريسها ثقافة بشرية إنسانية راسخة.
لقد ساهمت فترة الحرب الباردة إلى حد كبير في إخفاء العديد من عيوب المجتمع الرأسمالي وحركته الداخلية ومع الإرهاصات الأولى للعولمة بدأت حقيقة وجوهر مقاصد ذلك النظام تتكشف وتظهر بشكل سافر لتشكل بمجملها حالة استفزاز للشعوب الفقيرة أو المفقرة تسابقت مع سياسات غير حكيمة لأنظمة فاسدة لم تضع إسعاد الإنسان ورفاهيته وكرامته وحريته في المقام الأول، سياسات جعلت من الفساد والإفساد وقمع الحريات وإفقارها وتجهيلها سبيلها للبقاء في السلطة واحتكارها واعتبارها امتيازاً لا خدمة للمجتمع لجهة إسعاده وحمايته في مناخ عيش رغيد واستقرار وسلم أهلي.
من هنا بدا واضحاً للكثير من شعوب العالم ونخبه الفكرية والسياسية أننا أصبحنا في عالم تقوده عولمة في جانب منها متوحشة تسعى لتكريس قاموسها الثقافي والسياسي على قاعدة انتصار المادة على الفكر كما أسلفنا وفرض دكتاتورية السوق والمال على حساب الفكر ومنظومة القيم ما ينتزع حقوق الفئات الاجتماعية وما حققته من مكاسب طوال نضال استمر مئات السنين وبرز بشكل أكبر عبر خطاب الثورة الفرنسية والبلشفية وحركات التحرر العالمي إضافة إلى نضال الطبقات الفقيرة والوسطى في دول الغرب ذاته.
إن الليبرالية المتوحشة التي تحاول إحكام قبضتها على مقدرات شعوب العالم ونهب ثرواته وأمواله وسرقتها ونموذجها ترامب الذي يتحدث علناً عن سرقة النفط السوري متساوياً في ذلك تماماً مع تنظيم داعش الإرهابي يضع المجتمع الغربي ومثقفيه وكذلك شعوب العالم أمام تحد كبير في مواجهة تلك النزعة الشريرة والتي إذا قيض لها أن تنجح فإنها ستشكل سابقة خطيرة في العلاقات الدولية تأتي على ميثاق الأمم المتحدة والشرعية الدولية ومفهوم السيادة بمعناه الواسع ما يعني دخول العالم وشعوبه في نفق مظلم وسيادة منطق شريعة الغاب على الشرعية الدولية ومفهوم العدالة.