خاصّ – الخبير السوري:
تحولات حادة تشهدها الأسواق السورية، في السنوات الأخيرة من الحرب..فمظاهر الإنفاق الترفي و”الاستعراض” باتت ذات آثار و رضوض معنوية – نفسية عميقة للمجروحين والمأزومين ممن لفحتهم حيثيّات ومجريات هذا الظرف الصعب.
عادة يتم فرز الطبقات الاجتماعية ذهنياً على أساس مكونات عديدة من ثروة وسلطة ومقام أو مركز وظيفي، إلا أن هذا الفرز تعمق في عمق السوق، وأصبح مادياً ملموساً بأنماط حياة بعيدة عن التشارك حتى في أماكن التسوق.
نُدرك أنّ اقتصادنا المحرر مصحوباً “بالاجتماعي” لم يحرر الأسواق فقط، وإنما حرر الطبقات الاجتماعية وحددها علناً، منذ سنوات ما قبل الحرب، بعيداً عن التكافؤ والتساوي الذي لا يمكن أن يتحقق إلا في الخيال، لكن على الأقل كان محققاً بعض الشيء أيام “الانتهاجات” الاقتصادية النقيضة لما ينتهج الآن، فأعطى الأول تقسيماً طبقياً أسسه اقتصادية وأدواته القوة الشرائية، وإذا كان خير الأمور أوسطها فإن نسبة الفقراء التي ازدادت في سورية، على خلفيّات الحرب القذرة إلى نسب لم يعد من الحكمة التورّط بمحاولة حصرها وتحديدها،
فهي كانت مشكلة استغرقت الكثير من الطرح والجدل، حتى في سنوات الرخاء، ونذكر أن نسبة الفقراء وصلت عام 2010 إلى 12 % كحد أدنى و 34 % كحد أعلى ” معدّل الفقر الأعلى”..
ومجمل المتغيرات القديمة والجديدة، تجعلنا ندرك تقلص طبقات وتوسع أخرى على حسابها، ولكل أساليب حياته ونمط استهلاكه المختلف عن الآخر.
بين البذخ والتقتير ما يجعل من المقارنة ممكنة بين من يرتادون الأسواق الشعبية لشراء قطعة ملابس لا تتجاوز من حيث السعر الـ 500 ليرة سورية، أو 1000 ليرة في أعلى سعر لها أحياناً، ومن يرتادون المحلات الراقية لاقتناء الثياب بأسعار باهظة بين 50 – 200 ألف ليرة سورية في أماكن ملازمة للثراء وهؤلاء ممن لا يكترثون بالسعر، وخاصة النساء اللاتي حصلن على كل شيء “مادياً” ويبحثن عن التفرد على اعتبار أن هذه المحلات تبيع الماركات الأجنبية وتجعل من مقتنيها أحد مستهلكي ومروجي هذه الماركات بعيداً عن الصنع المحلي الذي يتغنون به هم أنفسهم.
فاختلاط الأوراق في زمن الحرب أحدث حالة من التفاوت الطبقي، و الانزياحات الحادّة في المجتمع السوري… بعد الانقسام إلى شريحتين ثرية وفقيرة دون الشريحة الوسطى ” بيضة القبّان الفعليّة”، والشريحة الفقيرة لا تجرؤ على الوقوف أمام متاجر عرض السلع الترفيّة، فإذا ما اعتبرنا أن متوسط راتب الموظف بعد الزيادة 50 آلاف ليرة سورية وسعر القطعة في هذه المتاجر 100- 200 ألف ليرة أي يمكن أن يعيل سعر القطعة أسرتين أو أربع أسر لشهر كامل على فرض أن الموظف ذا دخل الـ 50 آلفاً يعيل أسرة، أي أن مقتني القطعة يدفع مبلغاً ضخماً مقارنة مع راتب الأربعة موظفين، لكن إذا ما أراد هذا الشخص أن يشتري بدلاً كاملاً من هذه المحلات التجارية ذات التصنيف الترفي لن يخرج قبل أن يدفع نصف مليون ليرة مع الإكسسوارات والأحذية والساعات وغيرها، عندها لا يمكننا أن نقارن ما دفع مع متوسط الرواتب لأن النتيجة صادمة.
هناك من يقول إن وجود طبقة من ذوي الدخول العالية – في زمن تحرير الأسواق والإبقاء على التحرير رغم الحرب – يتطلب هذا النوع من المحلات ذات الأسعار الباهظة ووجودها منطقي، لكن هل ما تسدّده هذه المتاجر من ضرائب منطقي ويتناسب مع دخولها وهي التي يمكنها الاكتفاء يومياً ولو ببيع قطعة واحدة لتحقق ربحاً فاحشاً وتغطي كل ما يبيعه محل تجاري في سوق شعبي خلال شهر.. وهل هناك عدالة ضريبية.. ثم هل يدخل البعض منها في متاهة التهرب الضريبي؟. يقول محاسب قانوني: إن تلك المحلات تخضع لضريبة تندرج ضمن بند المكلفين بالأرباح الحقيقية وحسابات الدفاتر كما حددتها المادة /2/ من القانون 24، أي كل سنة يقدم المكلف بياناً ضريبياً يسجل فيه ربحه وخسارته وآلية عمله واستيراد البضاعة، ويشير إلى أن المحلات التجارية في الأسواق العادية تخضع لضريبة الدخل المقطوع التي تجبى كل ثلاث سنوات، حيث تحسب نسبة الربح الصافي لكل سنة ثم تفرض الضريبة ويأخذ المراقب بالاعتبار مكان تواجد المحل ويعود تقدير الضريبة للمراقب نفسه فهو من يقدر سعر المحل والأرباح أي تخضع الضريبة لنوع من المزاجية من المراقبين، أما المحلات التجارية التي تبيع السلع الباهظة الثمن والخاضعة لضريبة الأرباح الحقيقية فلا يمكن للمالية أن تفرض عليها الضريبة إلا وفقاً لدفاترها وللبيانات الجمركية التي يمكن التلاعب بها أثناء تسجيل البضاعة في الجمارك، ويقول: إنه إذا ما باع هذا المتجر بـ 500 ألف ليرة سورية يومياً سنخرج شهرياً بملايين الليرات، والضرائب هنا لا تتناسب مع الدخل لأن الوثيقة الوحيدة التي تدل على المصداقية هي بيانات الجمارك ولا يوجد برأيه هنا عدالة ضريبية على اعتبار أن موضوع الجمارك والرسوم يدخل في القيم المجباة كضريبة والتاجر يريد الربح ويسعى لتخفيض قيمة الفاتورة، وهذه الفاتورة المحررة وكشاف الجمارك هما المرجع الوحيد، ولا يمكن تحقيق العدالة الضريبية هنا – حسب المحاسب- إلا بتخفيض الرسوم الجمركية والتصريح الحقيقي من المستورد عن قيمة البضاعة، وربما لن تحل الإشكالية إلا بالفوترة الالكترونية.
فجوة إنفاقية كبيرة محدداتها متوسط إنفاق الأسر في الفئة العشرية الأولى ضمن تقسيمات المكتب المركزي للإحصاء..منذ العام 2010 وهي الأكثر فقراً وإنفاق الأسر الأكثر غنى في الفئة العاشرة، كانت تتجاوز في إحصاءات سابقة 7.2 %، تنوء بمعاناة كبيرة بين هذه الأسر التي لا تنفق إلا اليسير وبذخ الأسر التي يصل إنفاقها إلى ملايين الليرات السورية، كذلك تشير إلى فقدان التوازن والاهتزاز بين هذه الشرائح، وتعرّي التفاخر بزيادة إنفاق الأسر وحصولها على الخدمات في حين أن الواقع أنصف الشريحة العاشرة على حساب الأخريات.
بما أن لكل فعل حجة فمسوغات هذا البذخ الاستهلاكي مبررة عند الكثيرين، لأن لكل سوق زبائنه والأسواق بمتناول الجميع على الأقل برأي أصحاب هذه المحال، وغلاء أسعارهم كما يقولون عائد لارتفاع تكاليف استثمار العقار التجاري في الأحياء الراقية وإلى المتعلقات الأخرى من ضرائب وأجور عمال، وأيضاً زبائنهم من نوع خاص ومحددون ومعروفون ولا يهمهم السعر وجلّ ما يهمهم هو الظهور بمظهر “السوبر شيك” على اعتبار أن متاجرهم لا تكرر الموديلات ولا الألوان “مع التحفظات على غياب الأسس التي يتم وفقها التسعير إلا عدم اكتراث الزبون” وفي النهاية أمام المستهلك خيارات عديدة ومتنوعة وأسواق متعددة والاختيار متروك له.
في المحصلة لا بأس في أن تكون مقولة “لكل مقام مقال” هي المستحكم الجديد بأسواقنا، لكن ثمة مقولات أخرى تطالب من يختارون مقامات الواجهة بأن يكون عليهم التزامات تتناسب مع ما اختاروا، وإن كان “الغرم بالغنم” نسأل عن حجم الضريبة التي سددها أصحاب متاجر الرفاه والترف كي لا يكونوا غانمين بلا غرم ولا ضريبة؟!.