أزمات «إفلاسية» تضرب المصارف
محمد وهبة
19 كانون الأول
سلسلة من الأزمات ستلاحق المصارف خلال السنة المقبلة على رأسها تدهور العلاقات مع المصارف المراسلة التي قد تلجأ إلى رفع دعاوى إفلاس في وجهها إذا تخلّفت عن سداد قيمة التزاماتها معها، والخلافات مع مدقّقي الحسابات حول تطبيق المعيار المحاسبي IFRS9 الذي يفرض اقتطاع مؤونات قد تتجاوز قيمتها الـ 30 مليار دولار. أما استحقاق زيادة الرساميل (بالدولار) تطبيقاً للتعميم 532 الصادر عن مصرف لبنان، فمن المتوقّع، خلافاً لكل التوقعات، بأن يتمكن العدد الأكبر من المصارف من الإيفاء به قبل نهاية السنة الجارية.
التحويل ممنوع
قبل أيام قليلة، اندلع نقاش حادّ بين حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وبين المصارف يتعلق بطلب المصارف الحصول على السيولة بالدولار من أجل تسديد التزاماتها في الخارج. المصارف أبلغته أن أموالها المودعة لدى مصارف المراسلة الأجنبية ليست كافية لتسديد التزاماتها، وخصوصاً بعد خفض تصنيف لبنان إلى درجة (CC) الذي يفرض على مصارف المراسلة أمرين: أن تزيد قيمة الضمانات التي تحصل عليها من المصارف اللبنانية لفتح الاعتمادات بمختلف أنواعها، وأن تخفض سقوف التسهيلات التي كانت تمنحها للمصارف اللبنانية لإجراء التحويلات ولفتح الاعتمادات.
سلامة مدرك بأن الأموال الموجودة في حسابات المصارف في الخارج قد لا تكفي حتى نهاية شباط، إلا أنه رفض رفضاً قاطعاً أن تحصل المصارف على دولارات موجودة لديه من أجل تحويلها إلى الخارج، مشدداً على أنه يتوجب على المصارف أن تتدبّر أمورها.
في المقابل، تقول المصادر إن رئيس جمعية المصارف سليم صفير التقى ممثلاً من مصرف «JP Morgan» الذي يتعامل مع عدد غير قليل من المصارف اللبنانية ليكون مراسلاً لها في الخارج، وحاول التفاوض معه على آليات تأجيل تسديد الالتزامات، إلا أن ممثل المصرف المراسل رفض متذرّعاً بالمعايير المحاسبية العالمية التي تحظّر على المصارف مثل هذه الممارسات.
في الواقع، إن العلاقة بين المصرف اللبناني وبين المصرف المراسل هي علاقة تعاقدية بين طرفين بهدف تسهيل عمليات التبادل التجاري وتسديد قيمة الشحنات بين مصدّر في بلد ما ومستورد في لبنان. بمعنى أوضح، إن المصرف اللبناني ومصرف المراسلة يعملان لحساب طرفين آخرين. مصرف المراسلة يعمل كضامن لتسديد المبلغ المتّفق عليه بين المصدّر والمستورد مقابل تصدير الشحنة، فيما يعمل المصرف اللبناني كضامن لتسديد المبلغ من قبل المستورد للمستفيد بعد استلام الشحنة. فعلى سبيل المثال، يأتي تاجر إلى مصرف لبناني، فيطلب منه فتح اعتماد لاستيراد شحنة ويبلغه الاتفاق مع المصدر حول القيمة ووقت تسديد الاعتماد وسواهما. عندها يخاطب المصرف اللبناني، مصرفه المراسل ويبلغه بأن تسديد الأموال من التاجر مضمون من جهته وأن أوراقه سليمة. بعدها يتصل المصرف المراسل بالمصدّر طالباً منه المباشرة بشحن السلع للمستورد مقابل ضمانة الدفع من قبله أيضاً بعد موافقته على قيمة المبلغ ووقت تسديده كما تسلمه من المصرف اللبناني.
هذا هو باختصار ما يُسمى «خطاب الاعتماد» أو «فتح الاعتماد». هناك أكثر من مسار لهذه العملية، فهي قد تكون «غبّ الطلب»، أي أن المبالغ تدفع فور التأكّد من تسليم الشحنة، أو أن تكون مقسّمة على دفعات محدّدة. وفي كل الأحوال، يتطلب الأمر أن تكون هناك علاقة تجمع المصرف اللبناني بوصفه زبوناً لدى مصرف المراسلة، أي أن تكون لدى المصرف اللبناني حسابات لدى مصرف المراسلة سواء أكانت مجمّدة أم جارية مقابل تسهيلات مصرفية أو سقوف لفتح الاعتمادات أو سواها…
تخضع هذه العلاقة لقواعد معيارية تفرضها درجة المخاطر والربح بين الطرفين. وبما أن تصنيف لبنان انخفض إلى درجة قريبة من درجة التخلّف عن السداد، فقد بات محتّماً على المصارف المراسلة وتبعاً لتطبيق المعيار المحاسبي IFRS9 أن تخفض سقف التسهيلات للمصرف اللبناني وأن تفرض عليه ضمانات مالية أكبر تجاه الاعتمادات المفتوحة لديه، وهذا الأمر أدّى إلى تآكل ما يُسمى الموجودات الخارجية للمصارف اللبنانية سواء أكانت على شكل ودائع لدى مصارف المراسلة أم أي أصول أخرى.
وهناك أقلّ من مليار دولار قابلة للاستعمال سواء من أجل تمويل عمليات تجارية أم عمليات تحويل إلى الخارج، وبالتالي سيكون على المصارف وقف فتح الاعتمادات.
مؤونات تفوق الرساميل
الأزمة الثانية التي تواجه المصارف، تكمن في أن تطبيق المعيار المحاسبي IFRS9 والذي ألزمها به مصرف لبنان اعتباراً من مطلع 2018، يفرض عليها اتخاذ مؤونات تجاه التوظيفات التي زادت مخاطر توقفها عن السداد، وهذا الأمر ينطبق على أكبر زبون لدى المصارف، أي الدولة اللبنانية. فالمصارف توظّف أموالاً بقيمة 14.7 مليار دولار موظّفة في سندات الخزينة بالعملات الأجنبية، ولديها أيضاً 22.7 مليار دولار موظّفة في شهادات الإيداع الصادرة عن مصرف لبنان، وليس معروفاً ما هي قيمة الودائع بالدولار التي أودعتها لدى مصرف لبنان، إلا أنها تقدّر بنحو 46 مليار دولار منها 20 ملياراً احتياطات إلزامية. المؤونات المترتبة على هذا المستوى من التصنيف للأصول بمعدل 45% تبعاً للمعيار المحاسبي المذكور، وبعد استثناء الاحتياطات الإلزامية من هذا الحساب، تصل إلى 29 مليار دولار، أي ما يعادل مرة ونصف مرة قيمة رساميل المصارف البالغة 20 مليار دولار.
أموال المصارف في الخارج قد لا تكفي لتغطية التزاماتها لغاية شباط 2020
المدقّقون مصرّون على هذه المؤونات وإلا لن يكون بإمكانهم التعليق على هذه الحسابات، وهو ما يشكّل إفلاساً ضمنياً لأي مصرف يقوم بهذه الخطوة، وإذا قرّر مصرف لبنان تعليق العمل بهذا المعيار المحاسبي، فإنه سيكون مؤشّراً إضافياً على اقتراب الإفلاس، أي إشارة لن تفهمها الأسواق إلا بأنها خطوة سيئة جداً في اتجاه الهاوية.
الخبر «الإيجابي» اليتيم لدى المصارف أنها ستتمكن من تطبيق التعميم 532 الذي أصدره حاكم مصرف لبنان رياض سلامة فارضاً على المصارف ضخّ مقدمات نقدية بالدولار في رساميلها بنسبة 20% من قيمة رساميلها، منها 10% قبل نهاية السنة الجارية، و10% قبل نهاية حزيران 2020. قيمة المقدمات المطلوبة من القطاع بحسب «ميريل لينش» تبلغ 3.8 مليارات دولار (1.9 مليار دولار في كل مرحلة)، فيما مهلة المصارف للزيادة الأولى تقترب من نهايتها. بحسب تقديرات المطلعين، فإن العدد الأكبر من المصارف سيتمكن من جمع مبلغ 1.7 مليار دولار من أصل 1.9 مليار مطلوبة للقطاع. حتى الآن، فإن غالبية المصارف الكبيرة وبعض المصارف الصغيرة أعلنت عقد جمعيات عمومية من أجل الموافقة على دفع المساهمين لهذه المقدمات النقدية بالدولار.
النفي تدحضه ممارسات المصارف
رغم نفي رئيس جمعية مصارف لبنان سليم صفير أن المصارف ستوقف عمليات الدفع النقدي بالدولار للزبائن، إلا أنه تبيّن أن عدداً من المصارف منع الزبائن من سحب أي دولار على الكونتوار أو من الصرّاف الآلي، في خطوة تمهيدية في اتجاه توقف كل المصارف عن تسديد الدولار النقدي. وهذا المؤشّر الذي يشكّل عملية اقتطاع غير قانونية تمارسها المصارف على ودائع الزبائن لأنها تفرض عليهم عملياً سحب ودائعهم بالليرة بسعر 1515 مقابل الدولار، فيما السعر الوسطي لدى الصرّافين بات يبلغ 2030 ليرة (أمس). صفير لا يهتمّ إلا بنفي «الأخبار المتكاثرة والمتناقلة عبر وسائل التواصل الاجتماعي حول إقفال المصارف بعد فترة الأعياد وحول التوقف عن إجراء عمليات الدفع نقداً (كاش) بالعملات الأجنبية» مشيراً إلى أن الأمر «محض إشاعات وعارٍ من الصحة تماماً».