لبنان ـ نانسي رزوق
ليست مدينة أشباح. ثمة زحمة سير دائماً في أسواق جونية. أحياناً لا تعرف كيف تجد مبرراً لزحمة تستمر لساعات. لكنها اليوم، بالتأكيد، ليست زحمة على المحال التجارية في سوق المدينة اللبنانية المشهورة بكثرة المتسوقين.
يمكن القول إن سوق جونية اليوم كما حال البلاد، غارق في الضائقة. محال خاوية من الزبائن. ومن يدخل فليس لأكثر من إلقاء نظرة سريعة يتفحّص فيها الأسعار.
المحلات تقفل أبوابها، أما الأخرى التي تشهد إقبالاً أحياناً، فهي التي تعلن عن إجراء تصفية عامة على بضائعها بأسعار مغرية تمهيداً للإغلاق.
هذه هي الصورة التي يمكن أن نقدّمها في “لبنان 24” للقراء، بعد جولة قمنا بها في سوق جونية، استطلعنا فيها آراء أصحاب المحال التجارية والمتجولين.
رغم لجوء التجار إلى الإعلان عن تخفيضات قد تكون مغرية في كثير من الأحيان، إلا أن حركة البيع والشراء خجولة جداً. وبحسب ما صرح لنا صاحب متجر أحذية فإن “جونية كانت مقصداً للزوار، واليوم باتت تشبه مدينة أشباح”، يقولها وهو جالس خلف مكتب صغير متأملاً بضاعته قبل أن يضيف “لا يوجد زبائن اليوم، ولا مردود مادي يغطّي بدل الإيجار”.
لا يختلف حال الياس عن طوني صاحب محل ألبسة نسائية. المحل كان فارغاً من الزبائن، إلا من إمرأة قامت بجولة سريعة ثم خرجت كما دخلت، بيدين فارغتين.
يبتسم الرجل بأسى ممزوج بالقلق، ويقرّر الإفصاح فيقول إن “الوضع كان بلّش يصير سيء قبل الثورة، بس بعد الثورة تفاقم وصار أسوأ”، وفيما يتذكر النافذة التي علّق عليها آماله يصبح أكثر تشاؤماً “كنا متأملين العيد، لم يكن كما نريد. فكيف الحال بعد العيد؟ هذا هو الوضع. كما ترين”.
تشهد جونية منذ فترة انخفاضاً ملحوظاً في نسبة زبائن المحلات التجارية. السبب معروف ولا يخفى على أحد. إنه التدهور الإقتصادي الذي يضطر التجار إلى إقفال متاجرهم خوفاً من تعاظم الخسائر.
ويعيش تجار جونية تحدياً آخر، يتمثل ليس في بدلات الإيجار والتشغيل فقط، بل في أسعار البضاعة الجديدة المستوردة في ظل إرتفاع سعر صرف الدولار، وانخفاض القدرة الشرائية لدى اللبنانيين.
يشكو التجار الذين قابلناهم من أن قرارهم البيع “بالرسمال” وحتى بالخسارة، لا يجلب العدد الكافي من الزبائن. وهذا يرجع إلى تبدّل أولويات اللبنانيين في ظل هذه الضائقة. فبطبيعة الحال يصبح الحصول على الطعام والشراب والمواد الغذائية التي ارتفعت اسعارها بشكل جنوني، أكثر أهمية وإلحاحاً من شراء الثياب والأحذية التي غدت من الكماليات.
جونية التي ظلت لسنوات طويلة مقصداً للسياح، شوارعها شبه مقفرة، حتى من أهلها. فما ان تقفل المدارس والمصارف وبعض الدوائر الرسمية أبوابها، حتى تنفرط الزحمة. لا يختلف الحال في الكسليك كثيراً عما هو في جونيه، ويبدو أن الامر أصعب، حيث بدلات الإيجار وأسعار البضاعة أكبر.
في أثناء جولتنا في سوق جونية، التقينا أحد المارة، وبعد سؤاله عن سبب غياب الحركة المعتادة في السوق، كان جوابه صريحاً: “في هكذا وضع لن أشتري إلا الضروريات”، ويضيف “أنا متزوج ومسؤول عن عائلة، صراحة أفضّل أن أنفق مالي للحصول على غذاء وقسط المدرسة لأطفالي بدلاً من صرفها على التسوق. شراء الأحذية وغيرها ليس ضرورياً الآن”.
مشكلة سوق جونية كما مشاكل أسواق أخرى. هي حلقة واحدة لا آخر لها. لكن المعروف أن ما نشهده بدأ من تأزم المؤسسات المالي، التي حرمت موظفيها من نصف راتبه، أو صرفته إلى بيته. هذا الأمر مضافاً إلى تآكل القيمة الشرائية لليرة سينعكس على أولويات اللبنانيين، وقدرة رواتبهم المبتورة على الشراء، أما الحلقة ما قبل الأخيرة فهي أصحاب المحال التجارية المهددة إما بالاقفال أو خفض عديد الموظفين أو المسّ برواتبهم.