زياد غصن
هل بدأت سوريا فعلاً تقليم أظافر بعض رجال الأعمال البارزين لسبب ما؟ أم أن ما جرى ليس أكثر من تطبيق لسلطة القانون بهدف ضمان حقوق الدولة؟ وهل سيستمرّ هذا النهج مستقبلاً ويُطبَّق على جميع رجال الأعمال المخالفين؟
ثلاثة أخبار متتالية كانت كافية لتحريك المياه الراكدة في ملفٍّ كَثُرت شعاراته ووعود متحدّثيه طيلة سنوات، فيما اقتصرت فيه المحاسبة على أشخاص متّهمين بارتكاب مخالفات تُصنّف إما على أنها من فئة الفساد الصغير، أو أنها تمسّ أشخاصاً غير معروفين على المستوى المحلي. لكن مع الأخبار الثلاثة الأخيرة، والتي تضمّنت الحجز الاحتياطي واسترداد أموال من رجال أعمال كان الإعلام المحلي يتجنّب مجرّد ذكر أسمائهم أو الإشارة إلى أنشطتهم، تكون المحاسبة – أو هكذا يُفترض – قد وضعت قدمها على أعتاب مرحلة جديدة، تفتح الباب أمام عشرات الأسئلة والتحليلات المتعلقة بمستقبل الطبقة البرجوازية المحلية المتشكلة خلال العقود الثلاثة الماضية، والمستوى المسموح لعملية المحاسبة أن تبلغه مستقبلاً، وإذا ما كان أثرياء سنوات الحرب سيشكلون جزءاً من الطبقة البرجوازية الجديدة.
ثلاث «ضربات» في شهر واحد
قبل عامين ونيّف تقريباً، فتحت «الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش» تحقيقاً مستقلاً يتعلق بعدم تسديد خمسة من كبار رجال الأعمال رسوماً جمركية عن مستورداتهم النفطية. آنذاك، قُدّرت قيمة تلك الرسوم المراد تحصيلها بأكثر من 70 مليار ليرة (التقديرات حالياً تشير إلى إمكانية ارتفاع المبلغ ليصل إلى 100 مليار ليرة)، وهو رقم يكاد يساوي عدة سنوات تقريباً من حصيلة عمل المؤسّستين الرقابيّتين. لكن ذلك لم يكن فقط ما وسم التحقيق بالأهمية، بل أيضاً ورود أسماء كبيرة أثارت شكوكاً لدى البعض حيال إمكانية الاستمرار في التحقيق أو وضع توصياته موضع التطبيق. لكنها شكوك سرعان ما تبدّدت مع قرارات الحجز الجمركية الأخيرة، وما قادت إليه من تسويات انتهت وفق المعلومات المتداولة إلى تسديد البعض للرسوم المراد تحصيلها.
تَكرّر هذا أيضاً مع ملف المخالفات والتجاوزات المرتكبة في وزارة التربية، حيث أشارت تحقيقات البعثة التفتيشية المشتركة إلى وجود فروقات سعرية خيالية في مناقصات الوزارة ما بين عامي 2016 و2018 قُدّرت قيمتها بأكثر من 72 مليار ليرة. إلا أن ذلك لم يكن وحده السبب في أهمية هذا الملف التفتيشي الجديد، بل أيضاً اسم الجهة المتعهّدة التي جرى تحميلها المسؤولية الكاملة عن فروقات الأسعار المكتشفة، ومطالبتها بتسديد تلك الفروقات مع الغرامات القانونية، والتي شكّل مبلغها النهائي نحو 27% من المبلغ الإجمالي. في هذه الأثناء، كان هناك ملف تحقيقي ثالث ينتظر الرأي العام، ومحوره حديث حكومي عن قيام بعض المستوردين بتسعير مستورداتهم وفقاً لأسعار السوق السوداء، على رغم أنها مموّلة رسمياً، وتالياً تحقيق أرباح مضاعفة خلال العام الماضي، فكانت بداية المواجهة في هذا الملف مع صدور قائمة بأسماء ثمانية رجال أعمال بارزين حُظِر على المصارف العامة والخاصة تقديم تسهيلات ائتمانية لهم أو تحريك حساباتهم، ثم الحجز الاحتياطي على أموال أحد أشهر هؤلاء الثمانية، والذي طلب منه تسديد مبلغ كبير جداً، وفعل ذلك بموجب تسوية خاصة.
لن تحول التسويات دون حدوث تغييرات تطال الدور المستقبلي لبعض رجال الأعمال
وما بين الملفات الثلاثة، كانت تحقيقات عديدة أجرتها المؤسستان الرقابيتان تخلص إلى اكتشاف هدر واختلاس للمال العام خلال النصف الأول من العام المنصرم بأكثر من 8 مليارات ليرة وفق البيانات التي حصلت عليها «الأخبار»، إذ خلصت التحقيقات التي أجرتها «الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش» إلى وجوب تحصيل نحو 2.4 مليار ليرة، مقارنةً بالمُكتشف عام 2018، والذي وصل إلى نحو 36.3 مليار ليرة. أما عمليات التدقيق المالي لـ«الجهاز المركزي للرقابة المالية» فقد أفضت إلى وجود مخالفات وتجاوزات قيمتها نحو 5.7 مليارات ليرة خلال النصف الأول من العام الماضي، ونحو 11.4 مليار ليرة في العام 2018.
مستقبل مكافحة الفساد
لم يكن تزامن الإعلان عن «الضربات» الثلاث مصادفة، إذ إن تكاثر الحديث عن الاهتمام الحكومي بملف مكافحة الفساد خلال الفترة الماضية يجعل من توقيت الإعلان عن نتائج التحقيقات مقصوداً لإيصال رسالتين: الأولى للمواطن الذي يعاني ضائقة اقتصادية شديدة بفعل الحصار لطمأنته إلى استمرار حضور الدولة وقدرتها على اتخاذ قرارات كبيرة تعبّر عن طموحاته، وتالياً تغيير الصورة الذهنية المتشكّلة لديه عن مستوى الجدّية في مكافحة الفساد؛ والثانية تحذيرية موجّهة إلى شريحة التجار والصناعيين، ومفادها أنه غير مسموح لأحد بتجاوز حدود معينة في استغلال الظروف الحالية لمراكمة ثروات وأرباح، والتسبّب في أضرار قد تكون أخطر من تلك التي يمكن أن تنجم عن الحصار الغربي. وهذا ما ذهب إليه رئيس «جمعية العلوم الاقتصادية» في اللاذقية، سنان علي ديب، في حديثه إلى «الأخبار»، حيث اعتبر أن «الإجراءات الحكومية الأخيرة من حيث التوقيت والموضوع تبعث برسائل كثيرة، أهمها أن القانون فوق الجميع، وأن لمؤسسات الدولة هيبتها، خاصة بعد تصريحات رئيس الوزراء التي قال فيها إن الحكومة قدّمت للخاص الكثير، لكنه لم يقدم بالمثل ما هو مُنتظر منه».
والملاحظ في خطوات المحاسبة الأخيرة أنه لم يتمّ توقيف أيّ رجل أعمال على ذمة التحقيق، أو تحويله إلى القضاء، بل سُمح لهم بإجراء تسويات مالية، وتالياً العودة إلى ممارسة أنشطتهم الاقتصادية بشكل طبيعي، وبعيداً عن أيّ ضغوطات. وهذا يناقض تماماً تحليلات البعض القائلة بوجود رغبة رسمية في إبعاد بعض رجال الأعمال عن المشهد الاقتصادي المحلي. وبحسب ديب، فإن «الحكومة لم تُصادر ممتلكات خاصة، بل لجأت إلى الحجز الاحتياطي لأسباب مالية وقانونية، منها التهرّب الضريبي، والتهرّب الجمركي، وملفات فساد واضحة، في محاولة للتعاون الإيجابي، شريطة التحصيل الآمن للمبالغ المطلوبة». وهو المهم أيضاً برأي الوزير السابق، نبيل الملاح، الذي رأى، في حديثه إلى «الأخبار»، أن «الحجز الاحتياطي على بعض رجال الأعمال يدعو إلى التفاؤل بملاحقة الفاسدين، لكنه إجراء غير كاف إذا لم ينتج عنه استرداد المبالغ المنهوبة بشكل فعلي». ومن هنا، شدّد الملاح على ضرورة «إصدار بيان دوري بالمبالغ المستردّة فعلياً»، منذ أكثر من 15 عاماً.
مع ذلك، فإن تلك التسويات لن تحول في نظر البعض دون حدوث تغييرات تطال الدور المستقبلي لبعض رجال الأعمال المحسوبين على فترة ما قبل الحرب، وهنا يحضر توقّعان: الأول أن تكون التغييرات المرتقبة لصالح البرجوازية الوطنية، التي هي باتفاق الجميع «أساس التطور والنمو، والإجراءات الأخيرة قد تضع العربة على السكة الصحيحة لإعادة بناء وطني تنعكس على الجميع وتصل إلى مستوى إصلاح بنيوي؛ فالطبقات البرجوازية شريكة الحكومات في الاستثمار الأمثل للموارد، وهي تتناسب عكسياً مع الفساد الكبير»، وفق ما يعتقد ديب. أما التوقع الثاني، فهو أن يستغلّ أثرياء الحرب التطورات الأخيرة لتعزيز حضورهم ومكاسبهم الاقتصادية، وهؤلاء، بحسب أستاذ جامعي تحدثت إليه «الأخبار»، لا يمكن أن يكونوا من ضمن نسيج الطبقة البرجوازية الوطنية السورية، فهم مجرد «لوبي أثرياء»، جمعوا أموالهم من ممارسة الأعمال المشروعة وغير المشروعة التي فرضتها الحرب. لكن الملاح لا يعتقد أن الإجراءات الأخيرة سيكون لها تأثير فعال، فتأثيراتها «ستكون ضعيفة ومحدودة جدّاً ما لم يتمّ وضع رؤية متكاملة لمحاربة الفساد، وإحداث هيئة عليا ترتبط برئيس الجمهورية، والمضيّ قدماً في مشروع وطني شامل للإصلاح الإداري».