ما جرى من تخريب ودمار كبيرين في بلدنا، طال الحجر والشجر والبشر، خلال السنوات التسع المنصرمة، نتيجة الحرب العدائية التي شنّتها على بلدنا قوى الظلام المحلية والظلم الدولية، ونتيجة الحصار الاقتصادي الدولي المتتابع بأشكاله المتعددة، إضافة إلى النخر الداخلي المتمثل بقصور الأداء والفساد الذي سبق الحرب ورافقها وما زال في أكثر من مكان وزمان، كل ذلك استدعى صدور التوجيه الرسمي بالاستعداد والإعداد لإعادة الإعمار في أوجهه المختلفة، المؤسساتي والمنظماتي والأهلي.
وقد أثمر هذا التوجيه عن إقلاع بعض مؤسسات الجهات العامة والمنظماتية، ونسبة عالية من أصحاب المنشآت الخاصة التي سارع أصحابها لاستعادة نشاطها، والأمل معقود لمسارعة الجهات الأخرى باعتماد هذا التوجيه، بعيداً عن الاحتجاج ببعض الصعوبات واعتماد التشفي بها، بل العزم على تذليلها ومعالجتها، وحبذا أن يكون الاتحاد العام للفلاحين في طليعة هذه الجهات من خلال توجيه اتحاد فلاحي طرطوس، لمعالجة الواقع المتعثر بل المنهار للمخازن الاستهلاكية التعاونية الخمسة عشرة التي كانت لدى خمس عشرة جمعية تعاونية في مناطق المحافظة، لا الإجهاز على آخرها المتبقي.
فلسنوات مضت كان لدى اتحاد فلاحي طرطوس 15 مخزناً استهلاكياً تعاونياً تعود لـ15 جمعية فلاحية تعاونية تأسس بعضها منذ سبعينيات القرن الماضي، وكان لها دور كبير في إيصال مئات السلع الاستهلاكية المتنوعة، وتحديداً المواد التموينية المقننة، للأهالي الموجودين في قطاعها، وبأسعار تقل عن أسعار التجار، ما شجّع على الإقبال عليها، وقد حققت أرباحاً كبيرة، ولكن الفساد الذي اخترقها مترافقاً بقصور وفساد إشراف المنظمة الفلاحية عليها، ما أسفر عن ظهور القليل من هذه الأرباح، التي أغلبها لم يستثمر وفق الأنظمة المالية والمحاسبية التي تحكم عمل هذه المخازن، وتسبّب بتراجع الأرباح وإغلاق هذه المخازن الواحد تلو الآخر نتيجة لما انتابها من خلل إداري ومالي، تتحمّل مسؤوليته الجمعية والرابطة واتحاد المحافظة، وسبق أن صدر تقرير رقابة داخلية وقرار تفتيشي يؤكدان ذلك.
المخزن الوحيد المتبقي في الجمعية الفلاحية التعاونية لقرية الجرويه وتوابعها، هو الأقل رأسمالاً عند التأسيس والأكثر وفراً من أرباحه، قياساً إلى بقية المخازن، إذ بدأ عمله عام 1978 برأسمال حوالي ثلاثة آلاف ليرة سورية، وأصبح رأسماله الحالي اليوم حوالي 50 مليون ليرة، هي قيمة بنائه التجاري المؤلف من طابقين بمساحة حوالي 400م2 وسط منطقة تجارية، ولكنه رهن حالة الاحتضار منذ أكثر من عام، نتيجة استقالة عامل المخزن ومنحه أغلب الرصيد المالي المصرفي كتعويضات خدمة، ودون إدخال أية مواد جديدة على المخزن، ولم يفلح اتحاد فلاحي طرطوس في اتخاذ قرار إغلاقه على غرار المخازن السابقة الأربعة عشرة، إذ تركه بحكم الملغى نظرياً، تمهيداً لاتخاذ القرار الفعلي، ولكن الأهالي بانتظار اتخاذ قرار إجراءات تفعيله من جديد، خلال الاجتماع القريب للجمعية، فشتان ما بين إعادة الإعمار وإكمال الهدم.
إن البناء الحالي لجمعية الجرويه -الذي تحقق نتيجة أرباح المخزن– لا مثيل له لدى أية جمعية فلاحية في القطر، فهو مؤلف من طابقين، سفلي مُقسَّم إلى عدة محلات تجارية، وعلوي مؤلف من عدة مكاتب وقاعة اجتماعات حوالي 100م2، وقرابة نصف المحلات والمكاتب مؤجرة للغير لمصلحة الجمعية بدخل شهري حوالي 75 ألف ل.س، ولدى الجمعية رصيد مصرفي يقارب المليون، ومحلات غير مؤجرة بمساحة حوالي 85م2 ضمنها رخصة غاز ومستودع للعلف ومقر المخزن الحالي بأثاثه والقابل للتوسيع لحساب المحل المجاور، كل ذلك يجعل من المتوجب اتخاذ القرار بإعادة تنشيط عمل هذا المخزن، فالمنظمة الفلاحية /جمعية ورابطة واتحاد محافظة واتحاداً عاماً/ هي الأولى باستثمار ممتلكاتها، وإدارتها بأمانة تسمح بتحقيق أكبر منفعة ودخل، واستثمار ريعها بما يعود على الأعضاء التعاونيين ومنطقتهم، وفق ما ينص عليه النظام المالي والمحاسبي، وليس من حقها أن تؤجرها للغير وتمارس دور الآغا.
ومن المفيد التذكير بوجود تعميم سابق صادر عن رئاسة مجلس الوزراء يوجه بتفعيل دور الجمعيات التعاونية الاستهلاكية القائمة وإحداث الجديد منها، كما أن تقرير رئيس لجنة الرقابة الداخلية السابق في اتحاد فلاحي طرطوس يوصي بإحداث مخزن استهلاكي تعاوني باسم اتحاد الفلاحين في المحافظة، وفي كل رابطة فلاحية، وخاصة أن الاتحاد العام للفلاحين يملك مخزناً عائداً له في مبنى الاتحاد، ما يوجب ضرورة سعى الاتحاد العام الحثيث لتوجيه اتحاد فلاحي طرطوس لإعادة تنشيط كل المخازن الاستهلاكية الملغاة بل التوجيه الجاد لإحداث مخزن استهلاكي في كل جمعية فلاحية في القطر ما أمكن ذلك، ليقوم بتأمين تسويق بعض مستلزمات الفلاحين وبعض منتجاتهم، ويسوّق المواد التموينية المقننة في البطاقة الذكية بالتعاون مع السورية للتجارة، على غرار تسويقه السابق لها أيام المؤسسة العامة الاستهلاكية، ما يضمن استثماراً منتجاً ومفيداً لأموال الجمعيات المودعة في المصارف بفوائد زهيدة جداً، لا أن تبقى المنظمة الفلاحية تلقي بعاتق تسويق مستلزماتها ومنتجاتها على الغير.
عبد اللطيف عباس شعبان
عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية .